ثالثها : قوله تعالى :﴿ولهم رزقهم فيها﴾ أي : على ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بدّ من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا منة عليهم به ﴿بكرةً وعشياً﴾ أي : على قدرهما في الدنيا وليس في الجنة نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً وقيل : إنهم يعرفون النهار برفع الحجب والليل بإرخائها، فإن قيل : المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرةً وعشياً ليس من الأمور المستعظمة أجيب بوجهين ؛ الأوّل : قال الحسن : أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة وكانت عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أنّ المراد دوام الرزق تقول أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، وقيل : المراد رفاهية العيش
٤٨١
وسعة الرزق أي : لهم رزقهم متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٧
تلك الجنة﴾ بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها ﴿التي نورث من عبادنا﴾ أي : نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن ﴿من كان تقياً﴾ أي : المتقين من عباده.
فإن قيل : الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها ؟
أجيب : بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٧
﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك﴾ فقال ابن عباس قال رسول الله ﷺ "يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا" فنزلت الآية وقال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله ﷺ ليلة فقال لعلى أبطأت قال : قد فعلت، قال : ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال وما نتنزل إلا بأمر ربك فنزلت وقال قتادة والكلبي احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ ﷺ حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي "أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ ﷺ وهل يجدونه في
٤٨٢
كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ ﷺ أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى :﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف، ٢٣)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٢
وسورة الضحى" فإن قيل : قوله :﴿تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً﴾ كلام الله وقوله : وما نتنزل إلا بأمر ربك كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ؟
أجيب : بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى :﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ (البقرة، ١١٧)
وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله :﴿وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه﴾ (مريم، ٣٦)