﴿لقد جئتم شيئاً إدّاً﴾ قال ابن عباس أي : منكراً وقال قتادة أي : عظيماً وقال ابن خالويه : الأدّ والإدّ العجب وقيل : العظيم المنكر والإدة الشدّة وأدّني الأمر وأدني أثقلني وعظم عليّ وقرأ :
﴿تكاد السموات﴾ نافع والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وقرأ ﴿يتفطرن منه﴾ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففاً والباقون بعد الياء بتاء وفتح الطاء مشدّدة يقال انفطر الشيء وتفطر أي : تشقق وقراءة التشديد أبلغ لأنّ التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأنّ أصل التفعل التكلف ﴿وتنشق الأرض﴾ أي : تنخسف بهم ﴿وتخرّ الجبال هدّاً﴾ أي : تسقط وتنطبق عليهم
﴿أن﴾ أي : من أجل أن ﴿دعوا للرحمن ولداً﴾ قال ابن عباس وكعب : فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولداً.
فإن قيل : كيف يؤثر القول في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ؟
أجيب بوجوه ؛ الأوّل : أنّ الله تعالى يقول كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لقواعده وأركانه الثالث : أنّ السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل كذلك لو كانت تعقل هذا القول ثم نفى الله تعالى عن نفسه الولد بقوله تعالى :
﴿وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً﴾ أي : ما يليق به اتخاذ الولد ؛ لأنّ ذلك محال أما
٤٩٢
الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها وأمّا التبني فإنّ الولد لا بدّ وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا شبيه لله تعالى لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض إمّا من سرور أو استعانة أو ذكر جميل وكل ذلك لا يصح في حق الله تعالى
﴿إن﴾ أي : ما ﴿كل من في السموات والأرض﴾ أي : أنّ كل معبود من الملائكة في السموات والأرض من الناس منهم العزير وعيسى ﴿إلا آتي الرحمن﴾ أي : ملتجئ إلى ربوبيته ﴿عبداً﴾ منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد ومن المفسرين كالجلال المحلي من حمله على يوم القيامة خاصة والأوّل أولى لأنه لا تخصيص في الآية
﴿لقد أحصاهم﴾ أي : حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوزه وعلمه وقبضته وقدرته وكلهم تحت تدبيره وقهره ﴿وعدّهم عدّاً﴾ أي : عدّ أشخاصهم وأيامهم وأنفاسهم وأفعالهم فإنّ كل شيء عنده بمقدار لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٠
وكلهم آتيه﴾ أي : كل واحد منهم يأتيه ﴿يوم القيامة فرداً﴾ أي : وحيداً ليس معه من الدنيا شيء من مال أو نصير يمنعه ولما رد سبحانه وتعالى على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال :
﴿إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً﴾ أي : سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرّض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. روى الشيخان أنه ﷺ قال :"إذا أحب الله عبداً يقول لجبريل أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء قد أحبّ الله فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض" وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك والسين في سيجعل إما لأنّ السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا قوي الإسلام والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة وإمّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم، وروي عن كعب قال مكتوب في التوراة لا محبة لأحدٍ في الأرض حتى يكون ابتداؤها من السماء من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ومصداق ذلك في القرآن قوله سيجعل لهم الرحمن ودّاً وقال أبو مسلم معناه يهب لهم ما يحبون والودّ والمحبة سواء، ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة التوحيد والنبوّة والحشر والردّ على فرق المبطلين بيّن تعالى أنه يسر ذلك بلسان نبيه ﷺ بقوله :
﴿فإنما يسرناه﴾ أي : القرآن ﴿بلسانك﴾ أي : العربي أي : لولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك لك ﴿لتبشر به المتقين﴾ أي : المؤمنين ﴿وتنذر﴾ أي : تخوّف ﴿به قوماً لدّاً﴾ جمع ألد أي : جدل بالباطل وهم كفار مكة ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة عظيمة بليغة فقال تعالى :
﴿وكم﴾ أي : كثيراً ﴿أهكلنا قبلهم من قرن﴾ أي : أمّة من الأمم الماضية بتكذيب الرسل لأنهم إذا تأمّلوا وعلموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا وأنه لا بدّ فيها من الموت وخافوا سوء العاقبة في الآخرة كانوا إلى الحذر من المعاصي
٤٩٣
أقرب. ثم أكد ذلك بقوله تعالى ﴿هل تحس﴾ أي : ترى وقيل : تجد ﴿منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً﴾ أي : صوتاً خفياً لا قال الحسن بادوا جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر أي : فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
تنبيه : الركز الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ومنه ركز الرمح أي : غيبه في الأرض وأخفاه ومنه الركاز وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو "من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدّق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله تعالى" حديث موضوع.
٤٩٤
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٠