﴿قال هي عصاي﴾ وقد تم الجواب بذلك إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها : قوله :﴿أتوكأ﴾ أي : أعتمد ﴿عليها﴾ إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها : قوله :﴿وأهش﴾ أي : أخبط ورق الشجر ﴿بها﴾ ليسقط ﴿على غنمي﴾ لتأكله فبدأ عليه السلام أولاً بمصالح نفسه في قوله أتوكأ عليها ثم بمصالح رعيته في قوله : أهش بها على غنمي وكذلك في القيامة يقول نفسي نفسي ومحمد ﷺ لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال، ٣٣)
"اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون" فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمّته فيقول : أمّتي أمّتي رابعها قوله ﴿ولي فيها مآرب﴾ جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع ﴿أخرى﴾ كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل : انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل : اسم العصا نبعة وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناء بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل : زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر
٥٠٤
وتصير شعبتاها دلواً ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه
﴿قال﴾ له ﴿ألقها﴾ أي : أنبذها ﴿يا موسى﴾ ﴿فألقاها فإذا هي حية﴾ أي : ثعبان عظيم ﴿تسعى﴾ أي : تمشي على بطنها سريعاً وهنا نكت خفية.
إحداها : أنه عليه السلام لما قال ولي فيها مآرب أخرى أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٣
ثانيها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فقال أوّلاً : فاخلع نعليك إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال : ألقها وهو إشارة إلى ترك الطلب، كأنه تعالى قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك طالباً لحظك فلا تكن خالصاً لمعرفتي، فكن تاركاً للهرب والطلب تكن خالصاً لي.
ثالثها : أنّ موسى عليه السلام مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه ؟
فإن قيل : كيف قال هنا حية وفي موضع آخر جان وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات ؟
أجيب : بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مرّو الجان الدقيق وفي ذلك وجهان ؛ أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى :﴿فلما رآها تهتز كأنها جانّ﴾ (النمل، ١٠)
قال وهب : لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقاً وعرفاً يهتز وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف