﴿اذهب﴾ أي : رسولاً ﴿إلى فرعون﴾ وبيّن تعالى العلة في ذلك بقوله تعالى :﴿إنه طغى﴾ أي : جاوز الحد في كفره إلى أن ادّعى الإلهية ولهذا خصه الله تعالى بالذكر مع أنه عليه السلام مبعوث إلى الكل قال وهب : قال الله تعالى لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإنّ معك يدي ونصري وإني ألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوّة في أمرك أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرّته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً لينا لا يغترّ بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك فعند ذلك
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٣
﴿قال رب اشرح لي صدري﴾ أي : وسعه لتحمل الرسالة، قال ابن عباس : يريد حتى لا أخاف غيرك والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر بقوله :﴿قال ربّ إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني﴾ (الشعراء : ١٢، ١٣)
وذلك أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون اللعين خوفاً شديداً لشدّة شوكته وكثرة جنوده وكان يضيق صدراً بما كلف من مقاومة فرعون وحده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أنّ أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدّة شوكته وكثرة جنوده، وقيل : اشرح لي صدري بالفهم عنك ما أنزلت عليّ من الوحي
﴿ويسر﴾ أي : سهّل ﴿لي أمري﴾ أي : ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وذلك لأنّ كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فالله تعالى هو الميسر له، فإن قيل : قوله لي في اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والأمر مستتم مستتب بدونه ؟
أجيب : بأنه قد أبهم الكلام أوّلاً فقال اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بيّن ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل
﴿واحلل عقدة من لساني﴾ قال ابن عباس كان في لسانه عليه السلام رته وذلك أنّ موسى عليه السلام كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته إنّ هذا عدوّي وأراد أن يقتله فقالت له آسية : إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أنّ أمّ موسى لما فطمته ردّته إلى فرعون فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه واتخذاه ولداً فبينما هو ذات يوم يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه وهمّ بقتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل جربه إن شئت فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى عليه السلام فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
وقيل : قربا إليه تمرة وجمرة فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فاحترق لسانه، ويروى أنّ يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال إلى أي : رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها وعن بعضهم أنها لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة
٥٠٧
واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة.
وقيل : كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته واختلفوا في أنه لم طلب حل تلك العقدة ؟
فقيل : لئلا يقع خلل في أداء الوحي وقيل لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه وقيل : لإظهار المعجزة كما أنّ حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى معجز في حقه واختلفوا في زوال العقدة بكمالها فقيل : بقي بعضها لقوله :﴿وأخي هارون هو أفصح مني لساناً﴾ (القصص، ٣٤)
وقول فرعون ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن عليّ رضى الله تعالى عنهما رته فقال رسول الله ﷺ "ورثها من عمه موسى" وقال الحسن : زالت بالكلية لقوله تعالى :﴿قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ (طه، ٣٦)
وضعف هذا الرازي بأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقد من لساني بل قال واحلل عقدة من لساني فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله قال والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء وقال الزمخشري وفي تنكير العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً أي : ولذا قال :
﴿يفقهوا﴾ أي : يفهموا ﴿قولي﴾ عند تبليغ الرسالة ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني
تنبيه : استدل على أنّ في النطق فضيلة عظيمة بوجوه : أوّلها : قوله تعالى :﴿خلق الإنسان علمه البيان﴾ (الرحمن، ٣)