﴿إذ أوحينا إلى أمّك﴾ وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم﴾ (النحل، ٤٣)
والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى :﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ (النحل، ٦٨)
﴿وإذا أوحيت إلى الحواريين﴾ (المائدة، ١١١)
ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه :
أحدها : أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.
ثانيها : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
ثالثها : المراد خطور البال وغلبته على القلب، فإن قيل : هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني ؟
أجيب : بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.
رابعها : لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب : بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مراراً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٠
خامسها : لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه.
سادسها : لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله :﴿فتمثل لها بشراً سوياً﴾ (مريم، ١٧)
وأمّا قوله تعالى :﴿ما يوحى﴾ فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه
﴿أن اقذفيه﴾ أي : ألقيه ﴿في التابوت﴾ أي : ألهمناها أن اجعليه في التابوت ﴿فاقذفيه﴾
٥١٠
أي : موسى بالتابوت ﴿في اليمّ﴾ أي : نهر النيل ﴿فليلقه اليمّ بالساحل﴾ أي : شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر
تنبيه : اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي : يحسره إذا علاه وقوله تعالى :﴿يأخذه عدوّ لي وعدوّ له﴾ أي : فرعون جواب فليلقه وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي : سيصير عدوّاً له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى، روي أنها اتخذت تابوتاً قال مقاتل : إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى :﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري : مني لا يخلو إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت قرّة عين لي ولك لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى :﴿سيجعل لهم الرحمن ودّاً﴾ (مريم، ٩٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٠
المنة الثالثة قوله تعالى ﴿ولتصنع على عيني﴾ أي : تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.
تنبيه : ولتصنع معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون. المنة الرابعة قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon