وقال تعالى في موضع آخر :﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ (الإسراء، ٧)
نا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب ما جئنا به ﴿وتولى﴾ أعرض عنه، قال البيضاوي : ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأنّ التهديد في أوّل الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق. ولما أتياه وقالا : إنا رسولا ربك وبلغاه ما أمرا به
﴿قال﴾ لهما ﴿فمن ربكما يا موسى﴾ إنما نادى موسى وحده بعد مخاطبته لهما معاً إما لأنّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي كانت في لسان موسى عليه الصلاة والسلام ويعلم فصاحة أخيه بدليل قوله :﴿هو أفصح مني لساناً﴾ (القصص، ٣٤)
فأراد أن يفحمه ويدل عليه قول فرعون ولا يكاد يبين وإمّا لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون قاله أبو البقاء، ثم إنّ فرعون لم يشتغل مع موسى بالبطش والإيذاء لما دعاه إلى الله تعالى
٥١٥
مع أنه كان شديد القوّة عظيم الغلبة كثير العسكر بل خرج معه في المناظرة لأنه لو أذاه لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة وذلك يدل على أنّ السفاهة من غير حجة لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدّعي الإسلام والعلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
تنبيه : قال ههنا ﴿فمن ربكما يا موسى﴾ وقال في سورة الشعراء :﴿وما ربّ العالمين﴾ (الشعراء، ٢٣)
وهو سؤال عن الماهية فهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة قال ابن عادل والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدّماً على سؤال ما لأنه كان يقول : إني أنا الله والرب فقال : فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى طلب الماهية لأنّ العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
فإن قيل : لم قال فمن ربكما ولم يقل فمن إلهكما ؟
أجيب : بأنه أثبت نفسه رباً في قوله :﴿ألم نربك فينا وليداً﴾ (الشعراء، ١٨)
فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال أنا ربك فلم تدع رباً آخر وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال له نمروذ أنا أحيي وأميت فلم تكن الإماتة التي ذكرها إبراهيم هي الإماتة مع الإحياء التي عارضه نمروذ بها إلا فيّ اللفظ فكذا ههنا لما ادّعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام أي : أنا الرب الذي ربيتك ومعلوم أنّ الربوبية التي ادعاها موسى عليه السلام غير الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما، ثم كأنه قيل : فما أجاب به موسى فقيل :
﴿قال﴾ مستدلاً على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ﴿ربنا الذي أعطى كل شيء﴾ أي : من الأنواع ﴿خلقه﴾ أي : صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الإسماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناء عنه أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجرة زوجين والبعير والناقة كذلك والرجل والمرأة كذلك فلم يزاوج منهما شيئاً غير جنسه وما هو على خلاف خلقه ﴿ثم هدى﴾ أي : ثم عرّف الله تعالى الحيوان الكائن من المخلوق كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه. قال الزمخشريّ : ولله در هذا الجواب ما أحضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظره بين الأنصاف وكان طالباً للحق ولما خاف فرعون أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيظهر للناس صدقه
﴿قال﴾ لموسى ﴿فما بال﴾ أي : حال ﴿القرون﴾ أي : الأمم ﴿الأولى﴾ كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث فمن شقي منهم ومن سعد أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بهذه الحكايات فلم يلتفت إليه فلذلك
﴿قال علمها عند ربي﴾ استأثر به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلكم لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب وعلم أحوال هذه القرون مثبت عند ربي ﴿في كتاب﴾ هو اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه في علمه تعالى بما استحفظه العالم وقيده بالكتابة ويؤيده قوله ﴿لا يضلّ ربي ولا ينسى﴾ والضلال أن يخطئ الشيء في مكانه فلم يتهد إليه، والنسيان أن يذهب عنه بحيث لا يخطر بباله، وهما محالان على علام الغيوب بخلاف العبد الذليل والبشر الضئيل أي : لا يضل تعالى ولا ينسى كما تضلّ أنت وتنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة ثم عاد إلى تتميم كلامه الأوّل وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
الذي جعل
٥١٦
لكم﴾ في جملة الخلق ﴿الأرض مهداً﴾ أي : فراشاً