أحدها : أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد ؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع من السامري ما ذكر
﴿قال﴾ له ﴿فاذهب﴾ أي : فتسبب عن فعلك أن
٥٣٣
أقول لك : اذهب من بيننا، وحيث ذهبت ﴿فإن لك في الحياة﴾ أي : ما دمت حياً ﴿أن تقول﴾ لكل من رأيته ﴿لا مساس﴾ أي : لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحداً أو مسه أحد حما جميعاً عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحداً يقول لا مساس ؛ أي : لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحداً منهم حما جميعاً في ذلك الوقت ﴿وإن لك﴾ بعد الممات ﴿موعداً﴾ للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت ﴿لن تخلقه﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي : لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي : بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال :﴿وانظر إلى إلهك﴾ أي : بزعمك ﴿الذي ظلت﴾ أي : دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفاً ﴿عليه عاكفاً﴾ أي : مقيماً تعبده ﴿لنحرّقنّه﴾ أي : بالنار وبالمبرد قال البقاعي : كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، ﴿ثم لننسفنه﴾ أي : لنذرينه إذا صار سحالة ﴿في اليمّ﴾ أي : في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد، فقال :﴿نسفاً﴾ قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد ؛ قال الرازي : ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها، ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣١
إنما إلهكم الله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله :﴿الذي لا إله إلا هو﴾ أي : لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره ؛ لأنه ﴿وسع كل شيء﴾ وقوله :﴿علماً﴾ تمييز محمول على الفاعل، أي : أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانياً على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل : هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل : نعم
﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه ﴿نقص عليك من أنباء﴾ أي : أخبار ﴿ما قد سبق﴾ من الأمم زيادة في علمك وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيراً لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر ﴿وقد أتيناك﴾ أي : أعطيناك تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ﴿من لدنا﴾ أي : من عندنا ﴿ذكراً﴾ أي : كتاباً هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها : أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها : فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى :﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾(الزخرف، ٤٤) وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكراً فقال :﴿فاسألوا أهل الذكر﴾(النحل، ٤٣) والتتكير فيه للتعظيم، فإنه مشتمل على
٥٣٤
أسرار كتب الله تعالى المنزلة
﴿من أعرض عنه﴾ فلم يؤمن به ﴿فإنه يحمل يوم القيامة وزراً﴾ أي : حملاً ثقيلاً من الإثم