﴿قال﴾ الرب سبحانه وتعالى : الذي انتهكت حرمة داره ﴿اهبطا﴾ أي : آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما ﴿منها﴾ أي : الجنة ﴿جميعاً﴾ وقيل : الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس، فقوله تعالى :﴿بعضكم لبعض عدوٌّ﴾ يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوٌّ من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى :﴿فإما﴾ فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة ﴿يأتينكم مني هدى﴾ أي : كتاب ورسول ﴿فمن اتبع هداي﴾ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول ﴿فلا يضل﴾ أي : بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا ﴿ولا يشقى﴾ في الآخرة ؛ قال ابن عباس : من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول :﴿فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى﴾.
٥٤١
ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى :
﴿ومن أعرض عن ذكري﴾ أي : عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه ﴿فإن له معيشة ضنكاً﴾ والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال : له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود : المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال : قال ﷺ "والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً هل تدرون ما التنين ؟
تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون"، وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء : المعيشة الضنك هي معيشة الكافر ؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :"عقوبة المعصية ثلاثة ؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله"، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً رفيعاً كما قال الله تعالى :﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ (النحل، ٩٧)، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال ﷺ "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" متفق عليه. قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى :﴿استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً﴾ (نوح : ١٠، ١١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨
الآية، وقال تعالى :﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾ (الجن، ١٦)
. ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى :﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ قال ابن عباس : إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى :﴿أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا﴾ (مريم، ٣٨)، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال : لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى :
﴿قال رب لم حشرتني أعمى﴾ في هذا اليوم ؟
﴿وقد كنت بصيراً﴾ أي : في الدنيا، أو في أول هذا اليوم، فكأنه قيل : بما أجيب ؟
فقيل :
﴿قال﴾ له ربه ﴿كذلك﴾ أي : مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال :﴿أتتك آياتنا﴾ واضحة نيرة ﴿فنسيتها﴾ فعميت عنها، وتركتها غير منظور إليها ﴿وكذلك﴾ أي : ومثل تركك إياها ﴿اليوم تنسى﴾ أي : تترك في العمى والعذاب
﴿وكذلك﴾ أي : ومثل هذا الجزاء الشديد ﴿نجزي من أسرف﴾ في متابعة هواه، فتكبر عن
٥٤٢
متابعة أوامرنا ﴿ولم يؤمن﴾ بل كذب ﴿بآيات ربه﴾ وخالفها ﴿ولعذاب الآخرة أشدّ﴾ مما نعذبهم به في الدنيا والقبر لعظمه ﴿وأبقى﴾ فإنه غير منقطع. ولما بيّن الله تعالى أنَّ من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة اتبعه بما يعتبر به المكلف من الأفعال الواقعة في الدنيا ممن كذب الرسل، فقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٣٨