﴿ولا تمدن﴾ مؤكداً له بالنون الثقيلة ﴿عينيك﴾ أي : لا تطول نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها ﴿إلى ما متعنا به﴾ في هذه الحياة الفانية ﴿أزواجاً﴾ أي : أصنافاً ﴿منهم﴾ أي : الكفرة استحساناً له وتمنياً أن يكون لك مثله والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، وقوله تعالى :﴿زهرة الحياة الدنيا﴾ أي : زينتها وبهجتها منصوب بمحذوف دل عليه متعنا، أو به على تضمنه معنى أعطينا، فأزواجاً مفعول أول، وزهرة هو الثاني، وذكر ابن عادل غير هذين الوجهين سبعة أوجه لا حاجة لنا بذكرها، ثم علل تعالى تمتعهم بقوله تعالى :﴿لنفتنهم فيه﴾ أي : لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغرّ من لم يتأمل معناه حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه ﴿ورزق ربك﴾ في الجنة ﴿خير﴾ مما أوتوه في الدنيا ﴿وأبقى﴾ أي : أدوم أو ما رزقته من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأنّ أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى، قال الزمخشري : لأن الله تعالى لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى زرقاً انتهى، وهذا جار على مذهبه المخالف لأهل السنة من أن الحرام لا يسمى زرقاً، وقال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله : ولا تمدَّن عينيك ليس هو النظر بل هو الأسف أي : لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، وقال أبو رافع : نزلت هذه الآية في ضيق نزل بالنبيّ ﷺ فبعثني إلى يهودي يبيع أو يستلف إلى مدة، فقال : والله لا أفعل إلا برهن، فأخبرته بقوله فقال ﷺ "إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض احمل إليه درعي الحديد" فنزل قوله :﴿ولا تمدن
٥٤٤
عينيك﴾
، وقال ﷺ "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقال أبو الدرداء : الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له، وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا، وعن عيسى ابن مريم عليه السلام : لا تتخذوا الدنيا داراً، فتتخذكم لها عبيداً. ولما أمر الله تعالى نبيه محمد ﷺ بتزكية النفس أمره بأن يأمر أهله بالصلاة بقوله عز وجل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
وأمر أهلك بالصلاة﴾
أي : أمر أهل بيتك والتابعين لك من أمتك بالصلاة كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام يدعوهم إلى كل خير إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، وكان ﷺ بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما كل صباح ويقول : الصلاة ﴿واصطبر﴾ أي : داوم ﴿عليها لا نسألك﴾ أي : نكلفك ﴿رزقاً﴾ لنفسك ولا لغيرك ﴿نحن نرزقك﴾ وغيرك كما قال تعالى :﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد إن يطعمون إن الله هو الرازق ذو القوة المتين﴾ (الذاريات، ٥٨)
ففرِّغ بالك لأمور الآخرة، وفي معناه قول الناس : من كان في عمل الله كان الله في عمله.
وروي أنه ﷺ كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلطان قرأ : ولا تمدن عينيك الآية، ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية :﴿والعاقبة﴾ أي : الجميلة المحمودة ﴿للتقوى﴾ أي : لأهل التقوى قال ابن عباس : الذين صدقوك واتبعوك واتقوني، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر :﴿والعاقبة للمتقين﴾ (الأعراف، ١٢٨)، ولا معونة على الرزق وغيره بشيء يوازي الصلاة، فقد كان ﷺ إذا حزبه أمر أي بالباء الموحدة أي : إذا أحزنه فزع إلى الصلاة قال ثابت : وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال ﷺ "يقول الله تعالى : تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك" وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله ﷺ يقول :"من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"، ثم إنه تعالى بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهاً بقوله تعالى :
﴿وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه﴾ فكأنه من لوازم قوله تعالى :﴿فاصبر على مايقولون﴾ وهو قولهم ﴿لولا﴾ أي : هلا يأتينا بآية،
٥٤٥
وقال في موضع آخر : لو ما تأتينا بآية كما أرسل الأوّلون، ثم أجاب الله تعالى عن رسوله ﷺ بقوله :﴿أولم تأتهم بينة﴾ أي : بيان ﴿ما في الصحف الأولى﴾ من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المشتمل عليه القرآن أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم بتكذب الرسل فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وقرأ نافع وأبوعمرو وحفص بالفوقية على التأنيث، والباقون بالتحتية على التذكير
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
ولو أنّا أهلكناهم﴾
معاملة لهم في عصيانهم ﴿بعذاب من قبله﴾ أي : هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله تعالى :﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ (طه، ١١٤)
وفي مثنى السورة في :﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ (طه، ٢)
أو من قبل محمد ﷺ ﴿لقالوا﴾ أي : يوم القيامة ﴿ربنا﴾ يا من هو متصف بالإحسان إلينا ﴿لولا﴾ أي : هلا ولم لا ﴿أرسلت إلينا رسولاً﴾ يأمرنا بطاعتك ﴿فنتبع﴾ أي : فيتسبب عنه أن نتبع آياتك التي تنجينا بها ﴿من قبل أن نذل﴾ بالعذاب هذا الذل ﴿ونخزى﴾ بالمعاصي التي عملناها على جهل، فلأجل ذاك أرسلناك إليهم، وأقمنا بك الحجة عليهم، ولما علم بهذا أنّ إيمانهم كالممتنع، وجدالهم لا ينقطع بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا كان كأنه قيل : فما الذي أفعل معهم ؟
فقيل :
﴿قل﴾ لهم ﴿كل﴾ أي : كل مني ومنكم ﴿متربص﴾ أي : منتظر ما يؤول إليه أمري وأمركم ﴿فتربصوا﴾ فأنتم كالبهائم ليس لكم تأمل ﴿فستعلمون﴾ أي : عما قريب بوعد لا خلف فيه، وهو يوم القيامة ﴿من أصحاب الصراط﴾ أي : الطريق ﴿السويّ﴾ أي : المستقيم ﴿ومن اهتدى﴾ أي : من الضلال، فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره أنحن أم أنتم ؟
قال ابن عادل : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمّة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا"، وعن الحسن أن النبي ﷺ قال :"لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه" انتهى، ولم يذكر لذلك سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار" فحديث موضوع.
٥٤٦
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٣


الصفحة التالية
Icon