ما يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله :﴿من ذكر﴾ أي : وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى :﴿من ربهم﴾ صفة ذكر أوصلة ليأتيهم ﴿محدث﴾ إنزاله أي : ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل : معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي ﷺ وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه ؛ لأن الله تعالى قال :﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ (النجم : ٣، ٤)
﴿إلا استمعوه﴾ أي : قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق ﴿وهم﴾ أي : والحال أنهم ﴿يلعبون﴾ أي : يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب
﴿لاهية﴾ أي : غافلة معرضة ﴿قلوبهم﴾ عن ذكر الله.
تنبيه قوله تعالى : وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه :﴿وأسروا﴾ أي : الناس المحدّث عنهم ﴿النجوى﴾ أي : بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى :﴿الذين ظلموا﴾ بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أومبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم، وقيل : جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث وقيل : منصوب المحل على الذم،
٥٤٨
ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى :﴿هل﴾ أي : فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل ﴿هذا﴾ الذي أتاكم بهذا الذكر ﴿إلا بشر مثلكم﴾ أي : في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم :﴿أفتأتون السحر وأنتم﴾ أي : والحال أنكم ﴿تبصرون﴾ بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة و الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره.
فإن قيل : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب : بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، و يجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٧
ومنه قول الناس : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، قال البقاعي : فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها، ثم كأنه قيل : فإذا يقال لهؤلاء فقال :
﴿قال﴾ لهم :﴿ربي﴾ المحسن إلي ﴿يعلم القول﴾ سواء كان سراً أم جهراً كائناً ﴿في السماء والأرض﴾ على حد سواء ؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك ﴿وهو السميع العليم﴾، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.
فإن قيل : هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى :﴿وأسروا النجوى﴾ (طه، ٦٢)
أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر كما أن قوله : يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.
فإن قيل : لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى :﴿قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض﴾ (الفرقان، ٦)، ولم يقل : يعلم القول كما هنا ؟
أجيب : بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتاناً، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول : إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله تعالى :﴿علام الغيوب﴾ (المائدة، ١٠٩)
﴿عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة﴾ (سبأ، ٣)، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر.
٥٤٩
ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي ﷺ وفيما يقوله بقوله تعالى :