وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} أي : من أيام الدنيا أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، وتقدّم الكلام على تفسير ذلك في سورة الأعراف ﴿وكان عرشه على الماء﴾ قال كعب : خلق ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصمّ : ومعنى قوله تعالى :﴿وكان عرشه على الماء﴾ كقولهم السماء على الأرض، وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر. وقال حمزة : إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم، فكتب به ما هو خالقه، وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله تعالى
٥٢
ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه، ففي هذا دلالة على كمال قدرته تعالى ؛ لأنّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء، وقد أمسكه الله تعالى من غير دعامة تحته ولا علامة فوقه. وقوله تعالى ﴿ليبلوكم﴾ متعلق بخلق، أي : خلقها وما فيها منافع لكم ومصالح ليختبركم وهو أعلم بكم منكم ﴿أيكم أحسن عملاً﴾ أي : أطوع لله وأورع عن محارم الله، وهذا القيام الحجة عليهم. وقد مرّ أمثال ذلك، ولما بين تعالى أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم، وهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر ؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة. خاطب تعالى محمداً ﷺ فقال جلا وعلا :﴿ولئن قلت﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك ﴿إنكم مبعوثون من بعد الموت﴾ أي : للحساب والجزاء ﴿ليقولن الذي كفروا إن﴾ أي : ما ﴿هذا﴾ أي : القرآن بالبعث أو الذي تقوله ﴿إلا سحر مبين﴾ أي : بين. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، فيكون ذلك راجعاً للنبيّ ﷺ والباقون بكسر السين وسكون الحاء، ولما حكى تعالى عن الكفار أنهم يكذبون رسول الله ﷺ حكى عنهم نوعاً آخر بقوله تعالى :
﴿ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى﴾ مجيء ﴿أمّة﴾ أي : جماعة من الأوقات ﴿معدودة﴾ أي : قليلة ﴿ليقولنّ﴾ أي : استهزاء ﴿ما يحبسه﴾ أي : ما يمنعه من الوقوع قال الله تعالى :﴿ألا يوم يأتيهم﴾ كيوم بدر ﴿ليس مصروفاً﴾ أي : مدفوعاً العذاب ﴿عنهم وحاق﴾ أي : نزل ﴿بهم﴾ من العذاب ﴿ما كانوا به يستهزؤون﴾ أي : الذي كانوا يستعجلون، فوضع يستهزؤون موضع يستعجلون ؛ لأنّ استعجالهم كان استهزاء. فإن قيل : لم قال تعالى : وحاق على لفظ الماضي مع أنّ ذلك لم يقع ؟
أجيب : بأنه وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التأكيد والتقرير والتهديد. ولما ذكر تعالى أنّ عذاب الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بدّ وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٢
ولئن أذقنا﴾ أي : أعطينا ﴿الإنسان﴾ أي : الكافر ﴿منا رحمة﴾ أي : نعمة كغنى وصحة بحيث يجد لذتها ﴿ثم نزعناها﴾ أي : سلبنا تلك النعمة ﴿منه إنه ليؤس﴾ أي : قنوط من رحمة الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به ﴿كفور﴾ أي : جحود لنعمتنا عليه، وأمّا المسلم الذي يعتقد أنّ تلك النعمة من جود الله وفضله وإحسانه فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول : لعله تعالى يردها عليّ بعد ذلك أحسن وأكمل وأفضل مما كانت.
﴿ولئن أذقناه﴾ أي : الكافر ﴿نعماء بعد ضرّاء مسته﴾ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين وهما أذقناه ومسته من حيث الإسناد إليه تعالى في الأوّل وإلى الضرّاء في الثاني نكتة عظيمة وهي أنّ النعمة صادرة من الله تعالى تفضلاً منه لخبر :"ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟
قال : ولا أنا". والضرر صادر من العبد كسباً ؛ لأنه السبب فيه باجتلابه إياه بالمعاصي غالباً لقوله تعالى :﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ (النساء، ٧٩) ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿قل كل من عند الله﴾ (النساء، ٧٨) فإن الكلّ منه
٥٣