تنبيه : أشار تعالى بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم، وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته ﴿فأنجيناهم﴾ أي : الرسل ﴿ومن نشاء﴾ وهم المؤمنون أو من في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو واحد من ذريته، ولذلك حميت به العرب من عذاب الاستئصال، ﴿وأهلكنا المسرفين﴾ أي : المشركين ؛ لأن المشرك مسرف على نفسه
﴿لقد أنزلنا إليكم﴾ يا معشر قريش ﴿كتاباً﴾ أي : القرآن ﴿فيه ذكركم﴾ أي : شرفكم ووصيتكم كما قال تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد ودق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك، وقيل : فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، أو لأنه نزل بلغتكم، وقيل : فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد ﴿أفلا تعقلون﴾ فتؤمنوا به، وفي ذلك حث على التدبر ؛ لأن الخوف من لوازم العقل
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٤٧
﴿وكم قصمنا﴾ أي : أهلكنا ﴿من قرية﴾ أي : أهلها بغضب شديد ؛ لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم، وقوله تعالى :﴿كانت ظالمة﴾ أي : كافرة صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامها، ثم بيّن الغنى عنها بقوله تعالى :﴿وأنشأنا بعدها﴾ أي : بعد إهلاك أهلها ﴿قوماً آخرين﴾ مكانهم، ثم بيّن حالها عند إحلال البأس بها بقوله تعالى :
﴿فلما أحسوا﴾ أي : أدرك أهلها بحواسهم ﴿بأسنا﴾ أي : عذابنا ﴿إذا هم منا﴾ أي : القرية ﴿يركضون﴾ هاربين منها مسرعين راكضين دوابهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب والركض ضربة الدابة بالرجل، ومنه اركض برجلك، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم بعد تجبرهم على الرسل، وقولهم لهم : لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، فناداهم لسان الحال تقريعاً وتشنيعاً لحالهم
﴿لا تركضوا﴾ أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين ﴿وارجعوا﴾ إلى قريتكم ﴿إلى ما أترفتم﴾ أي : تمتعتم ﴿فيه﴾ من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة والترفه، ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن قال :﴿ومساكنكم﴾ أي : التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء بما أوسعتم من فنائها، وعليتم من بنائها، وحسنتم من مشاهدها ﴿لعلكم تسألون﴾ وفي هذا تهكم بهم وتوبيخ أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما يجري عليكم،
٥٥١
وينزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا، واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره، وينفذ فيه أمركم ونهيكم، فيقولوا لكم بم تأمرون وماذا ترسمون، أو شيئاً من دنياكم على العادة، أو تسألون في الإيمان كما كنتم تسألون، فتأبوا بما عندكم من الأنفة والحمية والعظمة، أو في المهمات كما تكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم السنية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا، ولما كان كأنه قيل : بم أجابوا هذا القائل ؟
قيل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥١
قالوا﴾
حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس ﴿يا ويلنا﴾ إشارة إلى أنه حل بهم ؛ لأنه ينادي بيا القريب ترفقاً به كما يقول الشخص لمن يضربه : يا سيدي كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم ؛ لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب، ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم :﴿إنا كنا﴾ جبلة وطبعاً ﴿ظالمين﴾ حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف لفوات محله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه القرية حَضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة، وهي وسحول قريتان قريبتان من اليمن تنسب إليهما الثياب، وفي الحديث :"كفن رسول الله ﷺ في ثوبين سحوليين"، وروي حضوريين بعث الله لهم نبياً، فقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه الله على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادٍ من السماء : يا لثأرات الأنبياء، وهي بفتح اللام، وبمثلثة وهمزة ساكنة أي : يا لأهل ثأراتهم أي : الطالبة بدمهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فندموا وقالوا ذلك
﴿فما﴾ أي : فتسبب عن إحلالنا بهم ذلك البأس أنه ما ﴿زالت تلك﴾ الدعوى البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم : يا ويلنا ﴿دعواهم﴾ يرددونها لا دعوى لهم غيرها ؛ لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم ﴿حتى جعلناهم حصيداً﴾ كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف،


الصفحة التالية
Icon