تنبيه : هذه العندية للشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال : الملائكة مع كمال شرفهم وعلو مراتبهم، ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن عبادته، فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته ﴿و﴾ مع ذلك أيضاً ﴿لا يستحسرون﴾ أي : لا يعيون، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيهاً على أن عبادتهم من ثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون، ولا يطلبون أن ينقطعوا عنها، فأنتج ذلك قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥٣
يسبحون﴾ أي : ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال ﴿الليل والنهار﴾ أي : جميع آنائهما دائماً ﴿لا يفترون﴾ أي : عن ذلك وقتاً من الأوقات، فهو منهم كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل، ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد، فلم يفعلوا كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم بالتوبيخ والتهكم والتعنيف، فقال تعالى :
﴿أم اتخذوا﴾ أي : بل اتخذوا، فأم بمعنى بل للانتقال والهمزة لإنكار اتخاذهم ﴿آلهة من الأرض﴾ ومعنى نسبتها إلى الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض ؛ لأن الآلهة على ضربين ؛ أرضية وسماوية، ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله ﷺ "أين ربك ؟
فأشارت إلى السماء، فقال : إنها مؤمنة" ؛ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات أن السماء مكان الله تعالى، ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ؛ لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض ﴿هم ينشرون﴾ أي : يحيون الموتى لا يقدرون على ذلك، وهم وإن لم يصرّحوا بذلك لزم من ادعائهم لها آلهة أنهم يقدرون على ذلك، فإنّ من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات، فالمراد به تجهيلهم والتهكم بهم، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانتشار بهم.
٥٥٤
ثم إنه سبحانه وتعالى أقام البرهان القطعي على نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشدّ برهان لأهل الكلام، فقال :
﴿لو كان فيهما﴾ أي : السموات والأرض أي : في تدبيرهما ﴿آلهة إلا الله﴾ أي : غير الله تعالى ﴿لفسدتا﴾ أي : لخرجتا عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدّد الحاكم، وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، وهذا ظاهر.
وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون : القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بدّ أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال ؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال ؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال :﴿فسبحان الله﴾ أي : فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال ﴿ربّ﴾ أي : خالق ﴿العرش﴾ أي : الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير ﴿عما يصفون﴾ أي : الكفار الله به من الشريك له وغيره، ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥٣
لا يسأل﴾ أي : من سائل ما ﴿عما يفعل﴾ لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ ﴿وهم يسألون﴾ لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم : لم فعلتم ؟
في كل شيء فعلوه، ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى :