﴿أولم ير﴾ أي : يعلم ﴿الذين كفروا﴾ علماً هو كالمشاهدة ﴿أن السموات والأرض كانتا﴾ ولم يقل : كنَّ ؛ لأنّ المراد جماعة السموات وجماعة الأرض ﴿رتقاً﴾ قال ابن عباس والضحاك : كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين زبدة واحدة ﴿ففتقناهما﴾ أي : فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق، قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً توسطتهما، ففتحهما بها، وقال مجاهد والسدّي : كانت السموات رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين، وقال عكرمة وعطية : كانت السموات رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسموات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على أن لها مدخلاً في الأمطار، وإنما قال تعالى : رتقاً على التوحيد، وهو نعت للسموات والأرض لأنه مصدر، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم بالنظر، أو باستفسار من العلماء، أو مطالعة الكتب، وقرأ ابن كثير ألم بغير واو بين الهمزة ولم، والباقون بالواو بين الهمزة واللام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥٧
النوع الثاني من الدلائل : قوله تعالى :﴿وجعلنا﴾ أي : خلقنا بما اقتضته عظمتنا ﴿من الماء﴾ الماء هو الدافق وغيره ﴿كل شيء حي﴾ مجازاً في النبات وحقيقة في الحيوان فإن قيل : قد خلق الله تعالى بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة ؟
أجيب : بأن هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، أي : أن أكثر ما خلق الله خلق من الماء وبقاؤه بالماء، وقيل : المراد بالماء ما نزل من السماء أو نبع من الأرض ﴿أفلا يؤمنون﴾ مع ظهور هذه الآيات الواضحات بتوحيدي، النوع الثالث من الدلائل : قوله تعالى :
﴿وجعلنا في الأرض رواسي﴾ أي : جبالاً ثوابت كراهة ﴿أن تميد﴾ أي : تتحرك ﴿بهم﴾ قيل : إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء، فأرساها الله وأثبتها بالجبال، النوع الرابع من الدلائل : قوله تعالى :﴿وجعلنا فيها﴾ أي : في الرواسي ﴿فجاجاً﴾ أي : مسالك واسعة سهلة، ثم أبدل منها ﴿سبلاً﴾ أي : مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد ﴿لعلهم يهتدون﴾ إلى منافعهم من ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية، النوع الخامس من الدلائل : قوله تعالى :
﴿وجعلنا السماء﴾ وأفردها مع إرادة الجنس ؛ لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا السماء الدنيا، ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن ﴿سقفاً﴾ أي : للأرض كالسقف للبيت ﴿محفوظاً﴾ أي : عن السقوط بالقدرة، وعن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بالمشيئة، وعن الشياطين بالشهب ﴿وهم﴾ أي : أكثر الناس ﴿عن آياتها﴾ أي : من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره، وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال من الجلال والجمال ﴿معرضون﴾ لا يتفكرون فيما فيها من السير والتدبير وغير ذلك، فيعلمون أنّ خالقها لا شريك له.
٥٥٧
النوع السادس من الدلائل : قوله تعالى :
﴿وهو﴾ أي : لا غيره ﴿الذي خلق الليل والنهار﴾ ثم أتبعهما أعظم آيتهما بقوله تعالى :﴿والشمس﴾ التي هي أعظم آية النهار ﴿والقمر﴾ الذي هو أعظم آية الليل ﴿كل﴾ أي : من الشمس والقمر، وتابعه وهو النجوم ﴿في فلك﴾ أي : مستدير كالطاحونة في السماء ﴿يسبحون﴾ أي : يسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل والمراد بالفلك الجنس كقولك : كساهم الأمير حلة، وقلدهم سيفاً، أي : كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصاراً، ولأن الغرض الدلالة على الجنس، ونزل لما قال الكفار : إن محمداً سيموت :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥٧
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد﴾
أي : البقاء في الدنيا ﴿أفإن﴾ أي : أيتمنون موتك، فإن ﴿مت فهم الخالدون﴾ فيها لا والله ليسوا بخالدين، فالجملة الأخيرة هي محل الاستفهام الإنكاري، وفي معنى ذلك قول فروة بن مسيك الصحابي :
*وقل للشامتين بنا أفيقوا
** سيلقى الشامتون كما لقينا
وقرأ نافع وحفص والكسائي بكسر الميم والباقون بضمها، ثم بيّن تعالى أن أحداً لا يبقى في هذه الدنيا بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon