ولما اضطرّهم الدليل أن يحققوا أنهم على محض الباطل ﴿فرجعوا إلى أنفسهم﴾ بالتفكر ﴿فقالوا﴾ أي : بعضهم لبعض ﴿إنكم أنتم الظالمون﴾ لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها إلا إبراهيم، فإنه أصاب بإهانتها.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٤
ثم نكسوا على رؤوسهم﴾ أي : انقلبوا غير مستحبين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه إلى المجادلة له بعدما استقاموا بالمراجعة من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى حاله الأول، شبّه عودهم إلى الباطل بصورة جعل أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه، ثم إنهم قالوا في مجادلتهم عن شركائهم والله ﴿لقد علمت﴾ يا إبراهيم ﴿ما هؤلاء﴾ لا صحيحهم ولا جريحهم ﴿ينطقون﴾ أي : فكيف تأمرنا بسؤالهم ؟
ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم اتجه لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم.
﴿قال﴾ منكراً عليهم موبخاً لهم ﴿أفتعبدون من دون الله﴾ أي : بدله ﴿ما لا ينفعكم شيئاً﴾ من رزق وغيره لترجوه ﴿ولا يضرّكم﴾ شيئاً إذا لم تعبدوه لتخافوه.
﴿أفٍ﴾ أي : تباً وقبحاً ﴿لكم ولما تعبدون من دون الله﴾ أي : غيره، وقرأ نافع وحفص بتنوين الفاء مكسورة وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقربه عاقل، أنكر عليهم ووبخهم بقوله :﴿أفلا تعقلون﴾ قبح صنيعكم وأنتم شيوخ قد مرّت بكم الدهور وحنكتكم التجارب ولما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل
﴿قالوا﴾ عادلين إلى العناد، واستعمال القوّة الحسية ﴿حرّقوه﴾ بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً أعظم مما فعل بآلهتكم ﴿وانصروا آلهتكم﴾ التي جعلها جذاذاً ﴿إن كنتم فاعلين﴾ نصرتها قال ابن عمر : إنّ الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل : اسمه هيتون، فخسف الله تعالى به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم
٥٦٥
القيامة، وقيل : قاله نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام، وروي أنّ نمروذ وقومه حين هموا بإحراقه حبسوه في بيت، ثم بنوا عليه بيتاً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى، ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدّة شهر حتى كان الرجل يمرض، فيقول : لئن عوفيت لأجمعنّ حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري بغزلها الحطب احتساباً في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، فلما جمعوا ما أرادوا وأشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً، فاشتعلت النار، واشتدت حتى كان الطير يمرّ بها، فيحترق من شدّة وهجها وحرّها، وأوقدوا عليه سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقوه، فجاءهم إبليس عليه اللعنة، فعلّمهم عمل المنجنيق فعملوا ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض، ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة ربنا خليلك يلقى في النار وليس في أرضك من يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال عز وجل : إنه خليلي وليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع أحداً غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه، فقال : إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح، فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟
قال : أما إليك فلا، فقال جبريل : فاسأل ربك، فقال إبراهيم عليه السلام : حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ (آل عمران، ١٧٣)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٤
قالها إبراهيم عليه السلام : حين ألقي في النار وقالها أصحاب محمد ﷺ حين قال لهم الناس :﴿إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم﴾ (آل عمران، ١٧٣)
؛ قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء النار عنه إلا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار، وعن أمّ شريك أن رسول الله ﷺ أمر بقتل الأوزاغ، وقال :"كان ينفخ على إبراهيم"، ولما أراد الله تعالى الذي له القوّة جميعاً سلامته منها قال تعالى :