ولوطاً} أي : وآتينا لوطاً أو واذكر لوطاً، ثم استأنف قوله تعالى :﴿آتيناه حكماً﴾ أي : نبوّة وعملاً محكماً بالعلم، وقيل : فصلاً بين الخصوم ﴿وعلماً﴾ مزيناً بالعمل مما ينبغي علمه للأنبياء ﴿ونجيناه من القرية﴾ أي : قرية سدوم ﴿التي كانت﴾ قبل إنجائنا له منها ﴿تعمل﴾ أي : أهلها الأعمال ﴿الخبائث﴾ من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور والتضارط في أنديتهم وغير ذلك وإنما وصف القرية بصفةأهلها وأسندها إليها على حذف المضاف وأقامته مقامه ويدل عليه ﴿إنهم كانوا﴾ أي : بما جبلوا عليه ﴿قوم سوء﴾ أي : ذوي قدرة على الشرّ بانهماكهم في الأعمال السيئة ﴿فاسقين﴾ أي : خارجين من كل خير
﴿وأدخلناه﴾ دونهم ﴿في رحمتنا﴾ أي : في الأحوال السنية والأقوال العلية والأفعال الزكية التي هي سببب للرحمة العظمى ومسببة عنها ثم علل ذلك بقوله تعالى ﴿إنه من الصالحين﴾ أي : الذين سبقت لهم منا الحسنى أي : لما جبلناه عليه من الخير. القصة الرابعة : قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿ونوحاً﴾ أي : واذكر نوحاً﴿إذ﴾ أي : حين ﴿نادى﴾ أي : دعا الله تعالى على قومه بالهلاك بقوله :﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً﴾ (نوح، ٢٦)
ونحوه من الدعاء ﴿من قبل﴾ أي : من قبل لوط ومن تقدّمه ﴿فاستجبنا﴾ أي : أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا ﴿له﴾ في ذلك النداء، ثم تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿فنجيناه وأهله﴾ أي : الذين دام ثباتهم على الإيمان وهم من كان معه في السفينة ﴿من الكرب العظيم﴾ أي : من أذى قومه ومن الغرق والكرب الغمّ الشديد قاله السدّي وقال أبو حيان الكرب أقصى الغمّ والأخذ بالنفس وهو هنا الغرق عبّر عنه بأوّل أحوال مأخذ الغريق.
٥٦٩
﴿ونصرناه﴾ أي : منعناه ﴿من القوم﴾ أي : المتصفين بالقوّة ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ من أن يصلوا إليه بسوء، وقيل : من بمعنى على ﴿أنهم كانوا قوم سوء﴾ أي : لا عمل لهم إلا ما يسوء ﴿فأغرقناهم أجمعين﴾ لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى.
القصة الخامسة : قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿وداود وسليمان﴾ ابنه أي : اذكرهما واذكر شأنهما ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿يحكمان في الحرث﴾ الذي أنبت الزرع وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قال ابن عباس : وأكثر المفسرين كان ذلك كرماً قد تدلت عناقيده، وقال قتادة : كان زرعاً قال ابن الخازن وهو أشبه للعرف ﴿إذ نفشت﴾ أي : انتشرت ليلاً بغير راع ﴿فيه غنم القوم﴾ فرعته، قال قتادة : النفش في الليل والعمل في النهار ﴿وكنا لحكمهم﴾ أي : الحكمين والمتحاكمين إليهما ﴿شاهدين﴾ أي : كان ذلك بعلمنا ومرأى منّا لا يخفى علينا علمه، وقال الفرّاء : جمع الاثنين فقال لحكمهم ويريد داود وسليمان ؛ لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله تعالى :﴿فإن كان له أخوة فلأمه السدس﴾ (النساء، ١١٠)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٦٧
وهو يريد أخوين، قال ابن عباس وقتادة وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع : إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فأفسدته، فلم تبق منه شيئاً، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فقال : كيف قضى بينكما، فأخبراه، فقال سليمان وهو ابن إحدى عشر سنة : لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروي أنه قال : غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال : كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوّة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود : القضاء ما قضيت. كما قال تعالى :
﴿ففهمناها﴾ أي : الحكومة ﴿سليمان﴾ أي : علمناه القضية وألهمناها له.
تنبيه : يجوز أن تكون حكومتهما بوحي إلا أنّ حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ويجوز أن تكون باجتهاد إلا أن اجتهاد سليمان أشبه بالصواب فإن قيل : ما وجه كل واحدة من الحكومتين ؟
أجيب : بأنّ وجه حكومة داود أنّ الضرر وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجني عليه.
كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك، أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.
ووجه حكومة سليمان : أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً وأبق من يده أنه يضمن بالقيمة، فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادَّا.


الصفحة التالية
Icon