﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها﴾ أي : بعمله الذي يعمل من أعمال البرّ ﴿نوف إليهم أعمالهم﴾ أي : التي عملوها من خير كصدقة وصلة رحم ﴿فيها﴾ أي : في الدنيا ﴿وهم فيها لا يبخسون﴾ أي : نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد ونحو ذلك.
﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط﴾ أي : بطل ﴿ما صنعوا﴾ أي : عملوا ﴿فيها﴾ أي : الآخرة فلا ثواب لهم ﴿وباطل ما كانوا يعملون﴾ لأنه لغير الله تعالى، فقال مجاهد : نزلت في أهل الرياء قال ﷺ "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالو : يا رسول الله، وما الشرك الأصغر ؟
قال : الرياء". والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة لتحمده الناس ويعتقدوا فيه الصلاح، فهذا هو العمل الذي لغير الله تعالى ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ وقال أكثر المفسرين : إنّها نزلت في الكافر، وأمّا المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وعن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال :"إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً". وقيل : نزلت في المنافقين الذين يطلبون بغزوهم مع النبيّ ﷺ الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. وقيل في اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس. ولما ذكر تعالى الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥
أفمن كان على بيّنة من ربه﴾
قيل : هو النبيّ ﷺ والبينة هي القرآن ﴿ويتلوه﴾ أي : يتبعه ﴿شاهد﴾ يصدقه ﴿منه﴾ أي : من الله تعالى وهو جبريل عليه السلام ﴿ومن قبله﴾ أي : القرآن ﴿كتاب موسى﴾ وهو التوراة شاهد له أيضاً وقوله تعالى ﴿إماماً﴾ أي : كتاباً مؤتماً به في الدين ﴿ورحمة﴾ أي : على المنزل عليهم ؛ لأنه الوصلة إلى الفوز بسعادة الدارين حال من كتاب موسى، والجواب محذوف لظهوره، والتقدير : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ليس مثله بل بينهم تفاوت بعيد وتباين بين. وقيل : هو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، والمراد بالبينة : هو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه، أي : من الله ومن قبله كتاب موسى، أي : ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى، أي : في دلالته على هذا المطلوب لا في الوجود. قال الرازي : وهذا القول هو الأظهر لقوله تعالى :﴿أولئك يؤمنون به﴾ وهذه صفة جمع ولا يجوز رجوعه إلى
٥٦
محمد ﷺ انتهى. ويجوز أن تكون للتعظيم أو له ﷺ ومن تبعه وربما يكون هذا أولى كما جرى عليه بعض المفسرين، والإشارة إلى من كان على بينة، والضمير في به للقرآن وإذا كان هذا الفريق ليس له في الآخرة إلا النار فهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة ﴿ومن يكفر به﴾ أي : بالنبيّ ﷺ أو القرآن ﴿من الأحزاب﴾ أي : أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس ﴿فالنار موعده﴾ يعني في الآخرة.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أنّ النبيّ ﷺ قال :"لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار". قال أبو موسى : فقلت في نفسي : إنّ النبي ﷺ لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول :﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده﴾ قال بعض العلماء : ولما دلت الآية على أنّ من يكفر به كانت النار موعده دلّ على أنّ من لا يكفر به كانت الجنة موعده وقوله تعالى :﴿فلا تك في مرية﴾ أي : في شك ﴿منه﴾ أي : القرآن أو الموعد ﴿إنه الحق من ربك﴾ الخطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره لأنه ﷺ لم يشك قط ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ أي : لا يصدقون بما أوحينا إليك أو بأن موعد الكفار النار، ثم وصف الله تعالى هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم. الصفة الأولى : كونهم مفترين على الله كما قال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٥


الصفحة التالية
Icon