فقال : يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني، فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي ؛ ألم أكن للغريب داراً وللمسلمين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً ؛ إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ؛ جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، فإن قضاءك هو الذي أذلني، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند
٥٧٦
ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب.
ثم نودي : يا أيوب إنّ الله تعالى يقول : ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً، قم فأدل بعذرك وتكلم بحجتك، وخاصم عن نفسك، واشدد أزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ؛ لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما بلغ مثله قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ؟
هل كنت معي تمدّ بأطرافها ؟
هل أنت علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي : شيء وضعت أكنافها ؟
أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ؟
أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها، ولا يقلها دعم من تحتها ؟
هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟
أين أنت مني يوم أنبعت الأنهار، وسكرت البحار ؟
أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حتى بلغت مدتها ؟
أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال ؟
هل تدري على أيّ شيء أرسيتها، أم بأيّ مثقال وزنتها ؟
أم هل لك من ذراع تطيق حملها ؟
أم هل تدري أين الماء الذي أنزلت من السماء ؟
أم هل تدري من أيّ شيء أنشىء السحاب ؟
أم هل تدري أين خزانة الثلج ؟
أم أين جبال البرد ؟
أم أين خزانة الليل بالنهار، وخزانة النهار بالليل ؟
وأين خزانة الريح ؟
وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟
من جعل العقول في أجواف الرجال ؟
ومن شق الأسماع والأبصار ؟
ومن دانت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم الأرزاق بحكمته ؟
في كلام كثير يدل على كمال قدرته ذكرها لأيوب.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٧٣
فقال أيوب عليه الصلاة والسلام : كلّ شأنيّ وكلّ لساني وكل عقلي ورأيي وضعفت قوّتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يدك، وتدبير حكمتك، وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت، لا يعجز عنك شيء، ولا تخفى عليك خافية ؛ أذلني البلاء يا إلهي، فتكلمت فكان البلاء هو الذي أنطقني، فليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها، ولم أتكلم بشيء يسخط ربي وليتني مت بغمي في أشدّ بلائي قبل ذلك، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلم أعد قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك على أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك.
فقال أيوب :﴿أني﴾ قد ﴿مسّني الضّرّ﴾ بتسليطك الشيطان عليَّ في بدني وأهلي ومالي، وقد طمع الآن في ديني وذلك أنه زين لامرأة أيوب أن تأمره أن يذبح لصنم فإنه يبرأ ثم يتوب، ففطن لذلك، وحلف ليضربنها إن برأ مائة جلدة، وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين، وروي عن أنس يرفعه "أنّ أيوب لبث ببلائه ثمان عشرة سنة"، وقال كعب سبع سنين، وقال الحسن : مكث أيوب مطروحاً على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وشهراً يختلفون في الدواء ولا يقربه أحد
٥٧٧


الصفحة التالية
Icon