﴿فظن أن لن نقدر عليه﴾ أي : لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى :﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر﴾ (الرعد، ٢٦)
وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك، قال : وما هي يا معاوية ؟
فقرأ هذه الآية فقال : أويظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة، وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه ﴿فنادى﴾ أي : فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء : سبعة أيام.
وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة، وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة، ومنعناه أن يكون له طعاماً، فنادى ﴿في الظلمات﴾ ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وقيل : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى :﴿ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات﴾ (البقرة، ١٧)
وقوله :﴿يخرجهم من النور إلى الظلمات﴾ (البقرة، ٢٥٧)، وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر ﴿أن لا إله إلا أنت﴾ ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى :﴿سبحانك﴾ أي : تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله ﴿إني كنت من الظالمين﴾ أي : في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعاً "أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له
٥٨٢
عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه : ما هذا، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر ؛ قال : فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى فنبذناه بالعراء وهو سقيم" فذلك قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨١
فاستجبنا له﴾
أي : أجبناه ﴿ونجيناه من الغم﴾ أي : من تلك الظلمات بتلك الكلمات ﴿وكذلك﴾ أي : وكما نجيناه ﴿ننجي المؤمنين﴾ من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع : وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل داع١. ه.
وعن النبي ﷺ "ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له"، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل : هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.
تنبيه : اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات :﴿فنبذناه بالعراء﴾ (الصافات، ١٤٥)، ثم ذكر بعده :﴿وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون﴾ (الصافات، ١٤٧)، وقال آخرون : إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى :﴿وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون﴾ (الصافات، ١٤٤)
القصة التاسعة : قصة زكريا عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿وزكريا﴾ أي : واذكر زكريا ويبدل منه ﴿إذ نادى ربه﴾ نداء الحبيب القريب فقال :﴿رب﴾ بإسقاط أداة البعد ﴿لا تذرني فرداً﴾ أي : وحيداً من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة ﴿وأنت﴾ أي : والحال أنك ﴿خير الوارثين﴾ أي : الباقي بعد فناء خلقك، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب، فتهبني ولداً تمنّ عليَّ به
﴿فاستجبنا له﴾ بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة، فقال تعالى :﴿ووهبنا له يحيى﴾ ولداً وارثاً نبياً حكيماً عظيماً ﴿وأصلحنا له﴾ خاصة من بين أهل ذلك الزمان ﴿زوجه﴾ أي : جعلناها صالحة لكل خير خالصة له، فأصلحناها للولادة بعد عقمها، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق
٥٨٣


الصفحة التالية
Icon