العقاب الذي كنا نستأصل الأمم به، فنحن نمهلهم ونترفق بهم إظهاراً لشرفك، وإعلاء لقدرك، ثم نردّ كثيراً منهم إلى دينك ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في إشراك المحال، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم، ويموج بعضهم في بعض من شدّة ما هم فيه يطلبون من يشفع لهم فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، فيحيل بعضهم على بعض وكل منهم يقول : لست لها حتى ىأتوه ﷺ فيقول :"أنا لها"، ويقوم معه لواء الحمد، فيشفعه الله تعالى، وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو ﷺ أفضل الخلق أجمعين، ولما أورد تعالى على الكفار الحجج في أن لا إله سواه وبيّن أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بأمره ﷺ بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨٧
قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد﴾
أي : ما يوحى إلي في أمر الإله إلا وحدانيته وما إلهكم إلا إله واحد لم يوح إلي فيما تدّعون من الشركة غير ذلك فالأوّل من قصر الصفة على الموصوف، والثاني : من قصر الموصوف على الصفة والمخاطب بهما من يعتقد الشركة فهو قصر قلب، وقال الزمخشري : إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية ؛ لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله ﷺ مقصور على استئثار الله تعالى بالوحدانية انتهى. ولما كان الوحي الوارد على هذه السنن موجباً أن يخلصوا التوحيد لله تعالى قال ﷺ ﴿فهل أنتم مسلمون﴾ أي : منقادون لما يوحى إلي من وحدانية الإله، والاستفهام بمعنى الأمر أي : أسلموا
﴿فإن تولوا﴾ أي : لم يقبلوا ما دعوتهم إليه ﴿فقل﴾ أي : لهم ﴿آذنتكم﴾ أي : أعلمتكم بالحرب كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ إليهم العهد وأشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعاً بذلك، وقوله :﴿على سواء﴾ حال من الفاعل والمفعول أي : مستوين في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم ولا أستبدّ به دونكم لتتأهبوا ﴿وإن﴾ أي : وما ﴿أدري أقريب﴾ جدّاً بحيث يكون قربه على ما يتعارفونه ﴿أم بعيد ما توعدون﴾ من غلب المسلمين عليكم أو عذاب الله أو القيامة المشتملة عليه، وإنّ ذلك كائن لا محالة ولا بدّ أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك ؛ لأنّ الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه، وإنما يعلمه الله تعالى
﴿إنه﴾ تعالى ﴿يعلم الجهر من القول﴾ أي : مما يجهرون به من العظائم وغير ذلك، ونبه تعالى على ذلك فإنّ من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه وتعالى أنه لا يشغله صوت عن آخر، ولا يفوته شيء من ذلك ولو كثر ﴿ويعلم ما تكتمون﴾ مما تضمرونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، ونظير ذلك قوله تعالى في أول السورة :﴿قل ربي يعلم القول في السماء والأرض﴾ (الأنبياء، ٤)
ومن لازم ذلك من المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل فستعلمون كيف تخيب ظنونكم ويتحقق ما أقول فتنطقون حينئذٍ بأني صادق ولست بساحر ولا شاعر ولا كاهن، فهو من أبلغ التهديد، فإنه لا أبلغ من التهديد بالعلم، ولما كان الإمهال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة قال :
٥٩٠
﴿وإن﴾ أي : وما ﴿أدري﴾ أن يكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أم لا ﴿لعله﴾ أي : تأخير العذاب ﴿فتنة﴾ أي : اختبار ﴿لكم﴾ ليظهر ما يعلمه منكم من السر لغيره لأنّ حالكم حال من يتوقع منه ذلك ﴿ومتاع﴾ لكم تتمتعون به ﴿إلى حين﴾ أي : بلوغ مدّة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل، ثم يأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون، ولما كان لله أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل، وكان من العدل جواز تعذيب الله تعالى الطائع وتنعيم المؤمن العاصي، وكان ﷺ قد بلغ الغاية في البيان لهم، وهم قد بلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه أمر الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه تسلية له بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨٧
قل رب﴾
أيها المحسن إليّ ﴿احكم﴾ أي : أنجز الحكم بيني وبين قومي ﴿بالحق﴾ أي : بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله ﷺ والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل : كيف قال رسول الله ﷺ احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق ؟
أجيب : بأن الحق ههنا بمعنى العذاب، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله :﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (الأعراف، ٨٩)، وقال أهل المعاني : معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق ﴿وربنا﴾ أي : المحسن إلينا أجمعين ﴿الرحمن﴾ أي : العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره، ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر، ٤٥)
﴿المستعان﴾ أي : المطلوب منه العون ﴿على ما تصفون﴾ من كذبكم على الله تعالى في قولكم : اتخذ الله ولداً، وعليّ في قولكم ساحر، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي : روي أنه ﷺ كان يقول ذلك في حروبه، ولم يذكر له سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن"، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب.
٥٩١
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٨٧


الصفحة التالية
Icon