المرتبة الأولى : قوله تعالى :﴿فإنّا خلقناكم﴾ بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء ﴿من تراب﴾ لم يسبق له اتصاف بالحياة، وفي الخلق من تراب وجهان ؛ أحدهما : أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسلام من تراب كما قال تعالى :﴿كمثل آدم خلقه من تراب﴾ (آل عمران، ٥٩)، الثاني : من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله تعالى :﴿إنا خلقناكم من تراب﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٢
المرتبة الثانية : قوله تعالى :﴿ثم من نطفة﴾ وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى :﴿من ماء دافق﴾ وأصلها الماء القليل ؛ قاله البغوي، وأصل النطف الصب ؛ قاله البيضاوي.
المرتبة الثالثة : قوله تعالى :﴿ثم من علقة﴾ أي : قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.
المرتبة الرابعة : قوله تعالى :﴿ثم من مضغة﴾ أي : قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ ﴿مخلقة﴾ أي : مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء ﴿وغير مخلقة﴾ أي : وغير مسوّاة، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد : المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط، وقال قوم : المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة، وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه قال : إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دماً، ولم تكن نسمة، وإن قال : مخلقة قال الملك : أي رب ذكر أم أنثى، وشقيّ أم سعيد، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت ؟
فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال : حدّثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق :"إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" فكأنه تعالى يقول : إنما نقلناكم من حال إلى حال، ومن خلقه إلى خلقة ﴿لنبيّن لكم﴾ بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبدأه بل هو
٥٩٥
أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر ﴿ونقرّ في الأرحام﴾ أي : من ذلك الذي خلقناه ﴿ما نشاء﴾ إتمامه ﴿إلى أجل مسمى﴾ هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام، أو تحرقه فيضمحل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٢
المرتبة الخامسة : قوله تعالى :﴿ثم نخرجكم طفلاً﴾ وهو معطوف على نبين، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا، والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.
المرتبة السادسة : قوله تعالى :﴿ثم﴾ أي : نمدّ أجلكم ﴿لتبلغوا﴾ بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة ﴿أشدكم﴾ أي : الكمال والقوّة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور.