فإن قيل : على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال ؟
أجيب عن الأوّل : بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه، وعن الثاني : بأنّ الهدى لما كان معرّضاً له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى :﴿له في الدنيا خزي﴾ أي : إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى :﴿ونذيقه يوم القيامة﴾ الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت ﴿عذاب الحريق﴾ أي : الإحراق بالنار، وعن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازاً.
﴿ذلك﴾ أي : العذاب العظيم ﴿بما قدمت يداك﴾ أي : بعملك، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد ؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى ﴿وأنّ﴾ أي : وبسبب
٥٩٧
أنّ ﴿الله ليس بظلام﴾ أي : بذي ظلم ما ﴿للعبيد﴾ وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيراً، واطمأن به، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرّاً، فينقلب عن دينه
﴿ومن الناس من يعبد الله﴾ أي : يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته ﴿على حرف﴾ فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة استمرّ، وإن توهم خوفاً طار وفرّ، وذلك معنى قوله تعالى :﴿فإن أصابه خير﴾ أي : من الدنيا ﴿اطمأنّ به﴾ أي : بسببه وثبت على ما هو عليه ﴿وإن أصابته فتنة﴾ أي : محنة وسقم في نفسه وماله ﴿انقلب على وجهه﴾ أي : رجع إلى الكفر، وعن أبي سعيد الخدريّ :"أن رجلاً من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي ﷺ فقال : أقلني، فقال : إن الإسلام لا يقال، فنزلت" ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى :﴿خسر الدنيا﴾ بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى :﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وروي إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيب﴾.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٧
والآخرة﴾
بالكفر، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الأمر العظيم ﴿هو﴾ أي : لا غيره. ﴿الخسران المبين﴾ أي : البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٧
٥٩٨
﴿يدعو﴾ أي : يعبد حقيقة أو مجازاً ﴿من دون اللَّه﴾ أي : غير من الصنم ﴿ما لا يضرّه﴾ إن لم يعبده ﴿وما لا ينفعه﴾ إن عبده ﴿ذلك﴾ أي : الدعاء ﴿هو الضلال البعيد﴾ عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً فطالت وبعدت مسافة ضلاله.
ولما كان الإحسان جالباً للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بَيَّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض، فقال تعالى :﴿يدعو لمن﴾ أي : من ﴿ضرّه﴾ بكونه معبوداً، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿أقر من نفعه﴾ الذي يتوقع منه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى.
تنبيه : علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي، ﴿فإن قيل﴾ : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض.
(أجيب) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضرّاً ولا نفعاً فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى :﴿لبئس المولى﴾ أي : الناصر هو ﴿ولبئس العشير﴾ أي : الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩٨
ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى :﴿إنّ الله﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص ﴿يُدخل الذين آمنوا﴾ بالله ورسله ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان ﴿جنات تجري من تحتها﴾ أي : في أيّ مكان من أرضها ﴿الأنهار﴾.


الصفحة التالية
Icon