فإن قيل : الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال :﴿لهو خير الرازقين﴾ ؟
أجيب : بأنّ غير الله يسمى رازقاً على المجاز كقولهم : رزق السلطان الجيش أي : أعطاهم أرزاقهم، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالاً على ختام التي قبل :
﴿ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه﴾ هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه، وقيل : هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، وقرأ نافع بفتح الميم أي : دخولاً، أو مكان دخول، والباقون بالضم أي : إدخالاً أو مكان إدخال ﴿وإنّ الله﴾ أي : الذي عمت رحمته وتمت عظمته ﴿لعليم﴾ أي : بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره ﴿حليم﴾ عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى، فلا يعاجل أحداً بالعقوبة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦١٧
﴿ذلك﴾ أي : الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك ﴿ومن عاقب﴾ أي : جازى من المؤمنين ﴿بمثل ما عوقب به﴾ ظلماً من المشركين أي : قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام ﴿ثم بغي عليه﴾ أي : ظلم بإخراجه من منزله، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام، فأبى المشركون، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى :﴿لينصرنّه الله﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿إنّ الله﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿لعفو﴾ عن المؤمنين ﴿غفور﴾ لهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٢
فإن قيل : لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء ؟
أجيب : بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى :﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى، ٤٠)
﴿يخادعون الله وهو خادعهم﴾ (النساء، ١٤٢)، وكما في قوله : كما تدين تدان.
فإن قيل : كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين ؛ لأنهم مظلومون ؟
أجيب : بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى :﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ (الشورى، ٤٣)
وبقوله تعالى :﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ (الشورى، ٤٠)
وبقوله تعالى :﴿وأن تعفو أقرب للتقوى﴾ (البقرة، ٢٣٧)، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له،
٦٢٢
فإني أنا الذي أذنت له فيها، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه
﴿ذلك﴾ أي : النصر ﴿بأنّ الله﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال ﴿يولج﴾ أي : يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ﴿الليل في النهار﴾ فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ﴿ويولج النهار في الليل﴾ فينسخ ضياءه بظلامه ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو بأنّ يدخل كلاً منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر ﴿وأنّ الله﴾ بجلاله وعظمته ﴿سميع﴾ لكل ما يقال ﴿بصير﴾ لكل ما يفعل، دائم الاتصاف بذلك، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر ؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض، ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى :
﴿ذلك﴾ أي : الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ﴿بأنّ الله﴾ أي : القادر على كل ما أراد ﴿هو﴾ وحده ﴿الحق﴾ أي : الثابت الواجب الوجود ﴿وأنّ ما يدعون﴾ أي : يعبد المشركون ﴿من دونه﴾ وهو الأصنام ﴿هو الباطل﴾ الزائل، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم ﴿وأنّ الله﴾ لكونه هو الحق الذي لا كفء له ﴿هو﴾ وحده ﴿العليّ﴾ أي : العالي على كل شيء بقدرته ﴿الكبير﴾ وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره، ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة :
الأول : قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٢