تنبيه : الذباب مفرد وجمعه القليل : أذبة، والكثير : ذبان مثل غراب وأغربة وغربان، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه ﴿ضعف الطالب﴾ قال الضحاك : هو العابد ﴿والمطلوب﴾ المعبود، وقال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم، وقيل : على العكس الطالب الصنم، والمطلوب الذباب، أي : لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه، ولما أنتج هذا جهلهم بالله عز وجل عبّر عنه بقوله تعالى :
﴿ما قدروا الله﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿حق قدره﴾ أي : ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه ﴿إنّ الله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿لقويّ﴾ على خلق الممكنات بأسرها ﴿عزيز﴾ أي : لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها ؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الإنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم حيث قالوا : إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله تعالى :﴿وما مسنا من لغوب﴾ (ق، ٣٨)
؛ قال الرازي : واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى : فهو سبحانه
٦٢٦
وتعالى خير النعت عزيز الوصف، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى :
﴿الله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿يصطفي﴾ أي : يختار ويختص ﴿من الملائكة رسلاً﴾ كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام ﴿ومن الناس﴾ كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ وعليهم نزلت حين قال المشركون :﴿أأنزل عليه الذكر من بيننا﴾ (ص، ٨)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٥
فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه ﴿إنّ الله﴾ أي : الذي له الجلال والجمال ﴿سميع﴾ لمقالتهم ﴿بصير﴾ بمن يتخذه رسولاً.
﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ أي : الرسل ﴿وما خلفهم﴾ أي : علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه ﴿وإلى الله﴾ أي : وحده تعالى ﴿ترجع﴾ بغاية السهولة ﴿الأمور﴾ يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهراً لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : تلبسوا بالإيمان ﴿اركعوا﴾ تصديقاً لإيمانكم ﴿واسجدوا﴾ أي : صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
تنبيه : إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى :﴿واعبدوا﴾ أي : بأنواع العبادة ﴿ربكم﴾ أي : المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال :﴿وافعلوا الخير﴾ أي : كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى ؛ قال أبو حيان : بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو : واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو : وافعلوا الخير ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي : افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ : لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له.


الصفحة التالية
Icon