﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله﴾ أي : خزائن رزقه، فكما أني لا اسألكم مالاً فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا غرض لي في المال لا أخذاً ولا دفعاً، وقوله :﴿ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك﴾ فأتعاظم به عليكم حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا بل طريقتي التواضع والخضوع، ومن كان هذا شأنه وطريقته كذلك فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين، ثم أكد ذلك بقوله :﴿ولا أقول للذين تزدري﴾ أي : تحتقر ﴿أعينكم﴾ أي : لا أقول في حقهم ﴿لن يؤتيهم الله خيراً﴾ فإن ما أعدّ الله تعالى لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا ﴿الله أعلم بما في أنفسهم﴾ وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق ﴿إني إذاً﴾ أي : إن فعلت ذلك ﴿لمن الظالمين﴾ لنفسي ومن الظالمين لهم. فإن قيل : هذه الآية تدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الإنسان إذا قال : لا أدعي كذا وكذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل ؟
أجيب : بأن نوحاً عليه السلام إنما ذكر ذلك جواباً عما ذكروه من الشبه، فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال : ولا أقول لكم عندي خزائن الله حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال : ولا أعلم الغيب حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما تكليفي بناء الأحوال على الظاهر، وطعنوا فيه أنه من البشر فقال : ولا أقول إني ملك حتى تنفوا عني ذلك وحينئذٍ فالآية ليس فيها ذلك. فإن قيل : في هذه الآية دلالة على أنّ طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي فكيف طرد محمد ﷺ بعض فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الله حتى عاتبه الله تعالى في قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيَّ ؟
أجيب : بأنّ الطرد المذكور في هذه الآية محمول على الطرد المطلق على سبيل التأبيد، والطرد المذكور في واقعة محمد ﷺ محمول على التبعيد في أوقات معينة رعاية للمصلحة. ولما أنّ الكفار أوردوا تلك الشبهة وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أوردوا عليه كلامين : الأوّل ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩
قالوا يا نوح قد
٦١
جادلتنا﴾
أي : خاصمتنا ﴿فأكثرت جدالنا﴾ أي : فأطنبت فيه، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوّة والمعاد، وهذا يدل على أنّ الجدال في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى أنّ التقليد والجهل حرفة الكفار، والثاني : ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله :﴿فأتنا بما تعدنا﴾ أي : من العذاب ﴿إن كنت من الصادقين﴾ في الدعوى والوعيد فإنّ مناظرتك لا تؤثر فينا.
﴿قال﴾ لهم نوح عليه السلام في جواب ذلك ﴿إنما يأتيكم به الله إن شاء﴾ تعجيله لكم فإن أمره إليه إن شاء عجله، وإن شاء أخره لا إليّ ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ أي : بفائتين الله تعالى.
ولما أجاب نوح عليه السلام عن شأنهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال :
﴿ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ أي : يضلكم وجواب الشرط محذوف دل عليه ولا ينفعكم نصحي. وتقدير الكلام : إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، فهو من باب اعتراض الشرط. على الشرط ونظير ذلك ما لو قال رجل لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فدخلت ثم كلمت لم تطلق فيشترط في وجوب الحكم وقوع الشرط الثاني قبل وقوع الأوّل. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى قد يريد الكفر من العبد فإنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه ﴿هو ربكم﴾ أي : خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته ﴿وإليه ترجعون﴾ فيجازيكم على أعمالكم قال تعالى :﴿أم﴾ أي : بل ﴿يقولون افتراه﴾ أي : اختلقه وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم ﴿قل﴾ لهم ﴿إن افتريته فعليّ إجرامي﴾ وهذا من باب حذف المضاف ؛ لأنّ المعنى فعليّ إثم إجرامي، والإجرام اقتراف المحظور. وفي الآية محذوف آخر وهو أنّ المعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليها ﴿وأنا بريء مما تجرمون﴾ أي : من عقاب جرمكم في إسناد الافتراء إليّ.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٩


الصفحة التالية
Icon