﴿ولو اتبع الحق﴾ أي : القرآن ﴿أهواءهم﴾ بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿لفسدت السموات﴾ على علوها وإحكامها ﴿والأرض﴾ على كثافتها وانتظامها ﴿ومن فيهن﴾ على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي : خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى :﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء، ٢٢)، ﴿بل أتيناهم﴾ بعظمتنا ﴿بذكرهم﴾ أي : بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، وقيل : بالذكر الذي تمنوه بقولهم : لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين ﴿فهم عن ذكرهم﴾ أي : الذي هو شرفهم ﴿معرضون﴾ لا يلتفتون إليه، ثم بين تعالى أنّ النبي ﷺ لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً لنفرتهم بقوله تعالى :
﴿أم تسألهم﴾ أي : على ما جئتم به ﴿خرجاً﴾ أي : أجراً، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف، والباقون بسكون الراء، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى :
﴿فخراج ربك﴾ أي : رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى ﴿خير﴾ لسعته ودوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء : الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه ؛ قال الزمخشري : والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج كقولك : خراج القرية، وخرج الكردة أي : الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجاً فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، وقوله تعالى :﴿وهو خير الرازقين﴾ تقرير لخيرية خراجه. ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول عليه السلام بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٨
وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم﴾ تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، كما تشهد له به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض، فحاز كل شرف.
تنبيه : قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين
٦٤٩
ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل له سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان.
﴿وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي : بالبعث والثواب والعقاب ﴿عن الصراط﴾ أي : الذي لا صراط غيره ؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره ﴿لناكبون﴾ أي : عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً بل خبط عشواء.
﴿ولو رحمناهم﴾ أي : عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى :﴿وكشفنا ما بهم من ضر﴾ أي : جوع أصابهم بمكة سبع سنين ﴿للجوا﴾ أي : عادوا وتمادوا ﴿في طغيانهم﴾ الذي كانوا عليه قبل هذا ﴿يعمهون﴾ أي : يترددون.
﴿ولقد أخذناهم بالعذاب﴾ وذلك أنّ النبي ﷺ دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه : العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً : القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي ﷺ السنة فقال :
*ولا شي مما يأكل الناس عندنا
** سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
*وليس لنا إلا إليك فرارنا
** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله ﷺ "واستسقى لرفع هذه المحن" فقال الله تعالى عنهم :﴿فما استكانوا﴾ أي : خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون ﴿لربهم﴾ أي : المحسن إليهم عقب المحنة ﴿وما يتضرعون﴾ أي : يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٨
حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا﴾ أي : صاحب ﴿عذاب شديد﴾ قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل : هو الموت، وقيل : هو قيام الساعة ﴿إذا هم فيه﴾ أي : ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص ﴿مبلسون﴾ متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه :
أحدها : ما ذكره بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٤٨
٦٥٠