وعن كعب الأحبار : أنّ نوحاً عمل السفينة في ثلاثين سنة. وروي أنها كانت ثلاث طبقات : الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، ولما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرض حبالها ؛ أوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهو القط فأقبلا على الفأر فأكلاه. قال الرزاي : واعلم أنّ أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة البتة، فكان الخوض فيها من باب الفضول، لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح، والذي نعلمه أنها كانت في السعة بحيث تسع المؤمنين من قومه، وما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان ؛ لأنّ هذا القدر مذكور في القرآن. وما آمن معه إلا قليل، فأما تعيين ذلك القدر فغير معلوم. ﴿قال﴾ لهم لما سخروا منه ﴿إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون﴾ إذا نجونا وغرقتم. فإن قيل : السخرية لا تليق بمنصب النبوّة ؟
أجيب : بأنّ ذلك ذكر على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى :﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى، ٤٠) والمعنى إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم، وهو قوله تعالى :
﴿فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه﴾ أي : يهينه في الدنيا وهو الغرق ﴿ويحلّ عليه﴾ في الآخرة ﴿عذاب مقيم﴾ وهو النار التي لا انقطاع لها وقوله تعالى :
﴿حتى إذا جاء أمرنا﴾ أي : بإهلاكهم غاية لقوله ويصنع الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام. واختلف في التنور في قوله تعالى :﴿وفار التنور﴾ فقال عكرمة والزهريّ : هو وجه الأرض. وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : فار التنور وقت طلوع الفجر ونور الصبح. وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ : أنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية وابن عباس : لأنه حمل الكلام على حقيقته، ولفظ التنور حقيقته هو الموضع الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين فوجب حمل اللفظ عليه، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال : إنه تنور لنوح. ومنهم من قال : إنه كان لآدم عليه السلام. قال الحسن : كان تنوراً من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح فقيل لنوح عليه السلام : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحابك. واختلفوا أيضاً في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ :
٦٤
كان في ناحية الكوفة، وكان الشعبيّ يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علماً لنوح. وقال مقاتل : كان تنور آدم عليه السلام وكان بالشأم بموضع يقال له عين وردة. وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند، ومعنى فار نبع على قوّة وشدّة تشبيهاً بغليان القدر عند قوّة النار، ولا شبهة أنّ التنور لا يفور.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣
والمراد : فار الماء من التنور فلما فار أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء الأول قوله تعالى :﴿قلنا احمل فيها﴾ أي : السفينة ﴿من كل زوجين اثنين﴾ والزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى، والتقدير من كل شيئين هما كذلك، فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر وواحد أنثى. وفي القصة أنّ نوحاً عليه السلام قال : يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين، فحشر الله تعالى إليه السباع والطير، فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيحملهما في السفينة. وقرأ حفص بتنوين لام كل، أي : واحمل من كل شيء زوجين اثنين : الذكر زوج والأنثى زوج. فإن قيل : ما الفائدة في قوله زوجين اثنين والزوجان لا يكونان إلا اثنين ؟
أجيب : بأنّ هذا على مثال قوله تعالى :﴿لا تتخذوا إلهين اثنين﴾ (النحل، ٥١). وقوله تعالى :﴿نفخة واحدة﴾ (الحاقة، ١٣) والباقون بغير تنوين فهذا السؤال غير وارد، النوع الثاني من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحملها في السفينة قوله تعالى :﴿وأهلك﴾ وهم أبناؤه وزوجته. وقوله تعالى :﴿إلا من سبق عليه القول﴾ بأنه من المغرقين وهو ابنه كنعان وأمّه راعلة وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهما بالهلاك بخلاف سام وحام ويافث وزوجاتهم ثلاثة وزوجته المسلمة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣


الصفحة التالية
Icon