﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات﴾ أي : طرق ﴿الشيطان﴾ بتزيينه أي : لا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ولا في غيرها ﴿ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه﴾ أي : المتبع ﴿يأمر بالفحشاء﴾ أي : بالقبائح من الأفعال ﴿والمنكر﴾ أي : ما أنكره الشرع وهو كل ما يكرهه الله تعالى، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون ﴿ولولا فضل الله﴾ أي : الذي لا إله غيره ﴿عليكم ورحمته﴾ أي : بكم بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وتشريع الحدود المكفرة لها ﴿ما زكى﴾ أي : ما طهر من ذنبها ﴿منكم من أحد أبداً﴾ آخر الدهر، والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا : أخبر الله أنه لولا فضل الله ورحمته ما صلح منكم من أحد، وقال ابن عباس : الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل بالتوبة منه ﴿ولكن الله﴾ أي : العليم بأحوال خلقه ﴿يزكي﴾ أي : يطهر ﴿من يشاء﴾ من الذنوب بقبول التوبة منها ﴿والله سميع﴾ أي : لأقوالهم ﴿عليم﴾ أي : بما في قلوبهم.
﴿ولا يأتل﴾ أي : يحلف افتعال من الآلية وهو القسم ﴿أولو الفضل﴾ أي : أصحاب الغنى ﴿منكم والسعة أن﴾ أي : أن لا ﴿يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا﴾ عنهم في ذلك ﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ أي : على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكان يتيماً في حجره، وكان ينفق عليه
٦٧٦
فلما فرط منه ما فرط قال لهم أبو بكر : قوموا لستم مني ولست منكم وكفى بذلك داعياً في المنع، فإن الإنسان إذا أحسن إلى قريبه وكافأه بالإساءة كان أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من أجنبي ؛ قال الشاعر :
*وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
** على المرء من وضع الحسام المهند
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٥
فقال له مسطح : نشدتك الله والإسلام والقرابة لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا أول الأمر من ذنب فقال : ألم تتكلم ؟
فقال : قد كان بعض ذلك عجباً من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال : انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على من تكلم بشيء من الإفك، فبعث رسول الله ﷺ إلى أبي بكر وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله :﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ ﴿والله غفور رحيم﴾ أي : مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه قال : بلى يا رب إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال : قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، وجعل له مثلي ما كان له، وقال : والله لا أنزعها أبداً، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أعظم من مقاتلة الكفار ؛ لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكفار ومجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة الكفار، ولهذا روي أنه ﷺ قال :"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
﴿إن الذين يرمون المحصنات﴾ أي : العفائف ﴿الغافلات﴾ أي : عن الفواحش وهنَّ السليمات الصدور النقيات القلوب بأن لا يقع في قلوبهن فعلها اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات ؛ قال في ذلك القائل متغزلاً :
*ولقد لهوت بطفلة ميالة
** بلهاءتطلعني على أسرارها
وكذلك البله من الرجال في قوله ﷺ "أكثر أهل الجنة البله"، وقيل : البله هم الراضون بنعيم الجنة والفطناء لم يرضوا إلا بالنظر إلى وجهه الكريم ﴿المؤمنات﴾ بالله ورسوله ﴿لعنوا في الدنيا والآخرة﴾ أي : عذبوا في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بالنار ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ لعظم ذنوبهم ؛ قال مقاتل : هذا خاص في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وروي أنه قيل لسعيد بن جبير : من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة، فقال : ذلك لعائشة رضي الله عنها خاصة. قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم ترَ أنَّ الله عز وجل قد غلظ في
٦٧٧
شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه على طرق مختلفة أو أساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه ولو لم تنزل إلا هذه الثلاث آيات لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم كما قال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٧٥