ثم وصف الزجاجة بقوله تعالى :﴿الزجاجة كأنها﴾ أي : النور فيها ﴿كوكب دري﴾ أي : مضيء شبهها في الضوء بإحدى الدراري من الكواكب الخمسة العظام وهي المشاهير المشتري والزهرة والمريخ وزحل وعطارد.
فإن قيل : لم شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر ؟
أجيب : بأنهما يلحقهما الخسوف والكسوف والكواكب لا يلحقها ذلك.
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام والباقون بضمها منسوب إلى الدر أي : اللؤلؤ في صفاته وحسنه، وإن كان الكوكب أكثر ضوء من الدر لكن يفضل الكواكب بصفائه كما يفضل الدر سائر الحب، وهمز مع المد أبو عمر وشعبة وحمزة والكسائي والباقون بغير همز وكل من أهل الهمز على مرتبته في المد ﴿توقد من شجرة مباركة زيتونة﴾ أي : ابتداء توقده من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت فتيلة المصباح بزيت الشجرة، وهي شجرة كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة ؛ لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو أدام وهو أصفى الأدهان وأضوؤها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على وزن تفعل على الماضي أي : المصباح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية وتخفيف القاف أي : المصباح ﴿لاشرقية ولاغربية﴾ أي : ليست بشرقية وحدها لاتصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا طلعت بل هي مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا كما يقال : فلان ليس أسود ولا أبيض أي : ليس أسود خالصاً ولا أبيض خالصاً بل اجتمع فيه كل واحد منهما، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة
٦٩١
لايصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل، والمقنأة بقاف فنون فهمزة وهي بفتح النون وضمها المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٠
وفي الحديث :"لا خير في شجرة مقنأة ولا في نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى" قال ابن حجر العسقلاني : لم أجده، وقيل : معناه أنها معتدلة ليست في شرق يصيبها الحر، ولا في غرب يضرها البرد، وقيل : معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض لا شرقي ولا غربي، وقيل : ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره ﴿يكاد زيتها﴾ أي : من صفائه ﴿يضيء ولو لم تمسسه نار﴾ أي : يكاد يتلألأ ويضيء بنفسه من غير نار ﴿نور على نور﴾ أي : نور المصباح على نور الزجاجة.
تنبيه : اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل فقال بعضهم : وقع التمثيل لنور محمد ﷺ قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى :﴿مثل نوره كمشكاة﴾ قال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيه ﷺ فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة تتوقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد ﷺ وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وروى سالم عن عمر في هذه الآية قال : المشكاة جوف النبي ﷺ والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليهما وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل عليهما السلام، والمصباح محمد ﷺ سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال تعالى :﴿وسراجاً منيراً﴾ (الأحزاب، ٤٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٠


الصفحة التالية
Icon