فإن قيل : بين إنما تدخل على مثنى فما فوقه فلم دخلت هنا على مفرد ؟
أجيب : بأن المراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه أو على حذف مضاف أي : بين أجزائه كما مر وبين قطعه فإن كل قطعة سحابة، وقرأ السوسي فترى في الوصل بالإمالة بخلاف عنه والباقون بالفتح، وأما في الوقف فأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، ﴿وينزل من السماء﴾ أي : من الغمام وكل ما علا فهو سماء ﴿من جبال فيها﴾ أي : في السماء وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال وقوله تعالى :﴿من برد﴾ بيان للجبال، والمفعول محذوف أي : ينزل مبتدئاً من السماء من جبال فيها من برد برداً، فمن الأولى : لابتداء الغاية باتفاق، والثانية : للتبعيض، والثالثة : للبيان، ويجوز أن تكون الثانية لابتداء الغاية أيضاً ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل والتقدير وينزل من جبال أي : من جبال فيها فهو بدل اشتمال، والأخيرة للتبعيض واقع موقع المفعول.
فإن قيل : ما معنى من جبال فيها من برد ؟
أجيب : بأن فيه معنيين ؛ أحدهما : أن يخلق اللّه في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر وليس في العقل قاطع يمنعه، الثاني : أن يراد الكثرة بذكر الجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من ذهب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم بيّن تعالى أن ذلك باختياره وإرادته بقوله تعالى :﴿فيصيب به﴾ أي : بكلٍ من البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة ﴿من يشاء﴾ أي من الناس وغيرهم ﴿ويصرفه عن من يشاء﴾ صرفه عنه : فائدة : عن مقطوعة من من في الرسم، ثم نبه تعالى على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النور الذي ربما نزل منه صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار بقوله تعالى.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٦
يكاد﴾
أي يقرب ﴿سنا﴾ أي ضوء ﴿برقه﴾ وهو اضطراب النور في خلاله ﴿يذهب﴾ أي هو ملتبساً ﴿بالأبصار﴾ أي الناظرة له أي يخطفها لشدّة لمعانه وتلألئه فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ونذيراً بنزول الصواعق، واعلم أن البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره يقتضي ظهور الضدّ من الضدّ وذلك لا
٦٩٩
يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم ذكر تعالى ما هو أدل على الاختيار بقوله تعالى مترجماً لما يشمل ما مضى وزيادة :
﴿يقلب الله﴾ أي الذي له الأمر كله بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً والنقص تارة والزيادة أخرى مع المطر تارة والصحو أخرى ﴿الليل والنهار﴾ فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والتنويع واليبس ما يبهر العقول، ولهذا قال منبهاً على النتيجة ﴿إن في ذلك﴾ الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم ﴿لعبرة﴾ أي دلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزيهه عن الحاجة وما يفضي إليها ﴿لأولي الأبصار﴾ أي لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده، ولما استدل تعالى أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات بقوله تعالى :
﴿والله﴾ أي : الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ﴿خلق كل دابة﴾ أي : حيوان ﴿من ماء﴾ وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل.
فإن قيل : كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى :﴿خلقه من تراب﴾ وخلق عيسى من الريح، كما قال تعالى :﴿فنفخنا فيه من روحنا﴾ ونرى كثيراً من الحيوانات يتوالد لا من نطفة ؟
أجيب : بوجوه ؛ أحسنها : ما قال القفال : إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى، ثانيها : إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي "أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب"، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها : المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها : لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٩٦
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله تعالى ﴿من ماء﴾ وعرفه في قوله تعالى ﴿من الماء كل شيء حي﴾ (الأنبياء، ٣٠)


الصفحة التالية
Icon