﴿إليه﴾ تعالى ﴿مرجعكم﴾ أي : رجوعكم بالموت والنشور حالة كونكم ﴿جميعاً﴾ لا يتخلف منكم أحد، فاستعدّوا للقائه. وقوله تعالى :﴿وعد الله﴾ مصدر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لنفسه ؛ لأن قوله تعالى :﴿إليه مرجعكم﴾ وعد من الله، وقوله تعالى :﴿حقاً﴾ أي : صدقاً لا خلف فيه مصدر آخر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لغيره، وهو ما دل عليه وعد الله. ﴿إنه يبدأ الخلق﴾ أي : يحييهم ابتداءً. ﴿ثم يعيده﴾ أي : ثم يميتهم ثم يحييهم. وفي هذا دليل على الحشر والنشر والمعاد، وصحة وقوعه، وردّ على منكري البعث ووقوعه ؛ لأنّ القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة، والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفريقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيباً ثانياً، ويخلق الإنسان الأوّل مرّة أخرى، فإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت ؛ كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وهو قوله تعالى :﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط﴾ أي : بالعدل، لا ينقص من أجورهم شيئاً. ﴿والذين كفروا لهم شراب من حميم﴾ وهو ماء حار قد انتهى حرّه ﴿وعذاب أليم﴾ أي : بالغ في الإيّلام. ﴿بما كانوا يكفرون﴾ أي : بسبب كفرهم.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣
هو الذي جعل الشمس ضياءً﴾ أي : ذات ضياء ﴿والقمر نوراً﴾ أي : ذا نور، وخص الشمس بالضياء ؛ لأنها أقوى وآكد من النور، وخص القمر بالنور ؛ لأنه أضعف من الضياء، لأنّ الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نير بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وقرأ قنبل بهمزة مفتوحة
ممدودة بعد الضاد، والباقون بياء مفتوحة، والضمير في قوله تعالى :﴿وقدّره منازل﴾ يرجع إلى الشمس والقمر ؛، أي : قدّر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدّره ذا منازل، أو يرجع إلى القمر فقط، وتخصيصه بالذكر لسرعة مسيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله تعالى :﴿لتعلموا عدد السنين والحساب﴾ أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرّفاتكم ؛ لأنّ الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى :﴿إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله﴾ (التوبة : ٣٦)
فائدة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها : السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجاً : الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فلكل برجٍ منزلان وثلث، فينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً، فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان تسعاً وعشرين فليلة واحدة، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها، أو انتفاع الخلق بضوء الشمس، وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى هذه الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، والنهار يكون زماناً للتكسب وللطلب، والليل يكون زماناً للراحة. ﴿ما خلق الله ذلك﴾ المذكور. ﴿إلا بالحق﴾ أي : لم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً ـ تعالى الله عن ذلك ـ إظهاراً لقدرته، ودلائل وحدانيته.
ونظيره قوله تعالى في آل عمران :﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً﴾ (آل عمران : ١٩١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣
وقال تعالى في سورة أخرى :﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا﴾ (ص، ٢٧)
. ﴿يفصل﴾ أي : يبين ﴿الآيات﴾ أي : الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة بياناً شافياً. ﴿لقوم يعلمون﴾ فإنهم المنتفعون بالتأمّل فيها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء، والباقون بالنون.
ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإلهية والتوحيد بقوله تعالى :﴿إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض﴾ (الأعراف : ٥٤)، وثانياً بأحوال الشمس والقمر، استدل ثالثاً بقوله تعالى :
﴿إن في اختلاف الليل والنهار﴾ أي : بالمجيء والذهاب، والزيادة والنقصان، ورابعاً بقوله تعالى :﴿وما خلق الله في السموات﴾ من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك. ﴿و﴾ ما خلق الله في ﴿الأرض﴾ من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.