تثبيته وتوكيده، وأضافه إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه، وأنه الذي لا ينسخ، ولما بشرهم بالتمكين أشار لهم إلى مقداره بقوله تعالى :﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم﴾ أي : الذي كانوا عليه ﴿أمنا﴾ وذلك أن النبي ﷺ وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فقال ﷺ "لا تصبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديدة" وأنجز الله تعالى وعده وأظفرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعض بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا واستعبدوا أبناء القياصرة وتمكنوا اشرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال ﷺ "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"، ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن نزع الله ذلك الأمر كما أشير إليه بمن، وتنكير أمنا، وجاءالخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم، وذلك تصديق لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام :"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يملك الله من يشاء، فتصير ملكاً ثم تصير بزيزي قطع سبيل وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها"، والثلاثون : خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشرة، وخلافة عثمان اثنا عشر، وخلافة علي ستة، والبِزَّيزي بكسر الباء وتشديد الزاي الأولى، والقصر السلب والتغلب، وقوله : قطع سبيل إما عطف بيان لقوله : نصب بِزَّيزي، أو بدل منه، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بسكون الباء الموحدة وتخفيف الدال، والباقون بفتح الموحدة وتشديد الدال، ثم أتبع ذلك بنتيجته بقوله تعالى تعليلاً للتمكين وما معه ﴿يعبدونني﴾ أي : وحدي، وقوله تعالى :﴿لا يشركون بي شيئاً﴾ حال من الواو أي : يعبدونني غير مشركين فإن قيل : فما محل يعبدونني ؟
أجيب : بأنه مستأنف لا محل له كأن قائلاً قال ما لهم مستخلفين ويؤمنون ؟
فقال : يعبدونني ويجوز أن يكون حالاً عن وعدهم أي : وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلافهم فمحله النصب، ولما كان التقدير فمن ثبت على دين الإسلام وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى عطف عليه قوله تعالى :﴿ومن كفر﴾ أي : ارتد وكفر هذه النعمة ﴿بعد ذلك﴾ أي : بعد الوعد أو الخلافة ﴿فأولئك﴾ أي : البعداء من الخير ﴿هم الفاسقون﴾ أي : الخارجون عن الدين خروجاً كاملاً لا يقبل معه معذرة، ولا يقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى منهم ملام ولا تؤخذ بهم رأفة عند انتقام كما تقدم أول السورة فيمن لزمه الجلد، وقيل : المراد بالكفر كفران النعمة لا الكفر بالله، وقوله تعالى :﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ أي : العاصون لله، وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠٣
وأقيموا الصلاة﴾
أي : فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ؛ قال الزمخشري : وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل
٧٠٦
وإن طال ؛ لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ﴿وآتوا الزكاة﴾ فإنها نظام ما بينكم وبين إخوانكم ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي : في كل حال يأمركم به، وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها ﴿لعلكم ترحمون﴾ أي : لتكونوا على رجاء من الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره. والفاعل في قوله تعالى :
﴿لا تحسبن﴾ ضمير المخاطب أي : لا تحسبن أيها المخاطب ﴿الذين كفروا﴾ أي : وإن ازدادت كثرتهم على العدِّ وتجاوزت عظمتهم الحدّ ﴿معجزين﴾ أي : لأهل ودنا، وقيل : لنا ﴿في الأرض﴾ أي : فإنهم مأخوذون لا محالة، وقرأ ابن عامر وحمزة، بالياء على الغيبة قال النحاس : ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يلحن قراءة حمزة فمنهم من يقول : هي لحن ؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وأجيب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أن المفعول الأول محذوف تقديره : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين إلا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة :
*ولقد نزلت فلا تظني غيره
** مني بمنزلة المحب المكرم
أي : فلا تظني غيره واقعاً.
والثاني : أن المفعولين هما قوله :﴿معجزين في الأرض﴾ قاله الكوفيون، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة، وكسرها الباقون، وقوله تعالى :﴿ومأواهم النار﴾ أي : مسكنهم معطوف على لا تحسبن الذين كفروا معجزين، كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون أهل ودنا أو لا يفوتوننا ومأواهم النار المراد بهم المقسمون عليه بالله جهد أيمانهم، ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد المصير إليه، قال تعالى :﴿ولبئس المصير﴾ أي : المرجع مصيرها، فكيف إذا كان على وجه السكنى ؟
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon