قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى :﴿ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم﴾ أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴿أو بيوت آبائكم﴾ أي : وإن بعدت أنسابهم قال البقاعي : ولعله جمع لذلك فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم ﴿أو بيوت أمهاتكم﴾ كذلك وقدم الأب ؛ لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له ﴿أو بيوت إخوانكم﴾ أي : من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين ؛ لأنهم منكم، وهم أولياء بيوتهم ﴿أو بيوت أخواتكم﴾، فإنهن بعدهم من أولي البيت، فإن كن مزوجات فلا بد من إذن الزوج ﴿أو بيوت أعمامكم﴾ فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أم لأم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط، فإنه أحق بالاسم ﴿أو بيوت عماتكم﴾ فإنهن بعد الأعمام لضعفهن ؛ ولأنهن ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج ﴿أو بيوت أخوالكم﴾ لأنهم شقائق أمهاتكم ﴿أو بيوت خالاتكم﴾ أخرهن لما ذكر في العمات ﴿أو ما ملكتم مفاتحه﴾ قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفاتح كونها في يده وحفظه، وقال الضحاك : يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم ؛ لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن بقوله تعالى :﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ ()
ويجوز أن تكون الذي يفتح به، وقال عكرمة : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، وقال السدي : الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه، وقيل : أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم، وقال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما ادخرتم وملكتم ﴿أو صديقكم﴾ أي : أو بيوت أصدقائكم، والصديق هو الذي صدق في المودة ويكون واحداً وجمعاً، وكذا الخليط والقطين والعدو قال ابن عباس : نزلت في الحرث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله ﷺ وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال : تحرجت أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. يحكى عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص ولطائف الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال : هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها، فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، وعن جعفر بن محمد : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى في الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠٩
وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا :﴿فمالنا من شافعين ولا صديق حميم﴾ (، )، والمعنى يجوز الأكل
٧١١
من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ظاهرة الحال، فإن ذلك يقوم مقام الإذن الصريح، ولذلك خصص هؤلاء فإنهم يعتادون التبسط بينهم وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه، فإن قيل : إذا كان ذلك لا بد فيه من العلم بالرضا فحينئذٍ لا فرق بينهم وبين غيرهم ؟
أجيب : بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم لا بد فيه من صريح الإذن أو قرينة قوية، هذا ما ظهر لي ولم أرَ من تعرض لذلك، وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والأكل من طعامه بغير إذنه لهذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ؛ لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم.
فإن قيل : فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه ؟
أجيب : بأن من سرق من ماله لا يكون صديقاً له، وقيل : إن هذا كان أول الإسلام ثم نسخ فلا دليل له فيه، وقرأ بيوتكم وبيوت وبيوتاً ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بالكسر، وقرأ حمزة والكسائي أمهاتكم في الوصول بكسر الهمزة، والباقون بالضم، وكسر الميم حمزة، وفتحها الباقون، ولما ذكر تعالى معدن الأكل ذكر حاله بقوله تعالى :