بعد نزولها لا يخرج لحاجةحتى يستأذن رسول اللّه ﷺ وكان المنافقون يخرجون بغير إذن، قال مجاهد : إن إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم : كذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، فإن حدث سبب يمنعه عن المقام كأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب الرجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان، ولما كان اعتبار الإذن كالمصدق لصحة كمال الإيمان، والمميز للمخلص فيه أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ بقوله تعالى :﴿إن الذين يستأذنونك﴾ أي : تعظيماً لك ورعاية للأدب ﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿الذين يؤمنون بالله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ورسوله﴾ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك، ولما نص على الاستئذان تسبب عن ذلك إعلامه ﷺ بما يفعل إذ ذاك بقوله تعالى :﴿فإذا استأذنوك لبعض شأنهم﴾ وهو ما تشتد الحاجة إليه، ﴿فأذن لمن شئت منهم﴾ بالانصراف أي : إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن، ففي ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله ﷺ واستدل به على أن بعض الأحكام مفوّض إلى رأيه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧١٣
قال الضحاك ومقاتل : المراد عمر بن الخطاب وذلك "أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال : انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا : ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل"، قال ابن عباس :"إن عمر استأذن النبي ﷺ في العمرة فأذن له ثم قال : يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك"، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور ؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى :﴿واستغفر لهم الله﴾ أي : الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى :﴿إن الله﴾ أي : الذي لا يخفى عليه شيء ﴿غفور﴾ أي : لفرطات العباد ﴿رحيم﴾ أي : بالتستر عليهم، ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها من شرف الرسول ما أبهر العقول صرح بتفخيم شأنه وتعظيم مقامه بقوله تعالى :
﴿لا تجعلوا﴾ أي : يا أيها الذين آمنوا ﴿دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً﴾ قال سعيد بن جبير وجماعة : معناه : لا تنادوه باسمه فتقولوا : يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا : يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير، فقولوا : يا رسول الله يا نبي الله، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض، فتتباطؤون عنه كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله تعالى :﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره﴾ (النور، ٦٣)، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل، وقال ابن عباس : احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وروي عنه أيضاً : لا ترفعوا أصواتكم في دعائه، وهو المراد من قوله :﴿إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله﴾ (الحجرات، ٣)، وقول المبرد كما قال ابن عادل : أقرب إلى نظم الآية.
٧١٤
ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة حذر من ذلك بقوله تعالى :﴿قد يعلم الله﴾ أي : الذي لا تخفى عليه خافية ﴿الذين يتسللون منكم﴾ أي : ينسلون قليلاً قليلاً ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء، ونظير تسلل تدرج وتدخل، وقوله تعالى :﴿لواذاً﴾ حال أي : ملاوذين، واللواذ والملاوذة التستر يقال : لاذ فلان بكذا إذا استتر به، وقال ابن عباس : أي : يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة لا سيما في خطبة النبي ﷺ وكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار، وقد للتحقيق وتسبب عن علمه تعالى قوله تعالى :﴿فليحذر﴾ أي : يوقع الحذر ﴿الذين يخالفون عن أمره﴾ أي : يعرضون عن أمر رسول الله ﷺ وينصرفون عنه بغير إذنه، وقال أبو بكر الرازي : الضمير في أمره لله ؛ لأنه يليه، وقال الجلال المحلي : أي : الله ورسوله وكلٌ صحيح، فإن مخالفة أمر أحدهما مخالفة أمر الآخر ﴿أن﴾ أي : لئلا ﴿تصيبهم فتنة﴾ قال مجاهد : بلاء في الدنيا، وعن ابن عباس : فتنة قتل، وعن عطاء : زلازل وأهوال، وعن جعفر بن محمد : يسلط الله عليهم سلطاناً جائراً ﴿أو يصيبهم عذاب أليم﴾ أي : وجيع في الآخرة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧١٣
تنبيه : الآية تدل على أن الأمر للوجوب ؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك، ولما أقام تعالى الأدلة على أنه نور السموات والأرض وختم بالتحذير لكل مخالف أنتج ذلك أن له كل شيء فقال تعالى :
﴿ألا إن لله ما في السموات والأرض﴾ خلقاً وملكاً وعبيداً، فإن قيل : ما فائدة ذكر عبيداً بعد ملكاً ؟
أجيب : عنه إنما ذكر لئلا يتوهم أن ما لما لا يعقل فقط، ولما كانت أحوالهم من جملة ما هو له، وإنها بخلقه قال تعالى :﴿قد يعلم ما أنتم﴾ أي : أيها المكلفون ﴿عليه﴾ أي : من الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد، وذلك أنَّ قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قول بعضهم :
*فإن تمس مهجور الفناء فربما
** أقام به بعد الوفود وفود
ونحوه يقول زهير :
*أخي ثقة لا تهلك الخمر
** ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
والمعنى : أن جميع ما في السموات والأرض مختص به تعالى فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها ؟
وقوله تعالى :﴿ويوم﴾ أي : ويعلم يوم ﴿يرجعون إليه﴾ فيه التفات عن الخطاب أي : متى تكون، أو ويوم يرجع المنافقون إليه للجزاء ﴿فينبئهم﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنه يخبرهم ﴿بما عملوا﴾ أي : من الخير والشر فيجازيهم عليه ﴿والله﴾ أي : الذي لا تخفى عليه خافية ﴿بكل شيء﴾ أي : من أعمالهم وغيرها ﴿عليم﴾ عن
٧١٥
عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها قالت : قال رسول الله ﷺ "لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور" أخرجه أبو عبد الله في البيع في صحيحه، وأما قول البيضاوي : تبعاً للكشاف :"من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي" فهو حديث موضوع.
٧١٦
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧١٣


الصفحة التالية
Icon