جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
قيل} أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى :﴿يا نوح اهبط﴾ أي : انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية ﴿بسلام﴾ أي : بعظم وأمن وسلامة ﴿منا﴾ وذلك أنّ الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعندما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى :﴿اهبط بسلام منا﴾ زال عنه ذلك الخوف ؛ لأنّ ذلك يدل على حصول السلامة وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق. ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة بقوله تعالى :﴿وبركات عليك﴾ وهو عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ؛ لأنّ الله تعالى صير نوحاً عليه السلام أبا البشر ؛ لأنّ جميع من بقي كانوا من نسله ؛ لأنّ نوحاً لما خرج من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته فالخلق كلهم من نسله، أو أنه لم يكن معه في السفينة إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم من ذريته. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿وجعلنا ذريته هم الباقين﴾ (الصافات، ٧٧) فثبت أنّ نوحاً كان آدم الأصغر فكان أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان كلهم منه ومن ذريته وكان بين نوح وآدم ثمانية أجداد. وقوله تعالى :﴿وعلى أمم ممن معك﴾ يحتمل أن تكون من للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ؛ لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم ؛ لأنّ الأمم تتشعب
٦٩
منهم، وأن تكون لابتداء الغاية، أي : على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر. قال في "الكشاف" : وهو الوجه، وقوله تعالى :﴿وأمم﴾ بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى :﴿سنمتعهم﴾ أي : في الدنيا صفة والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم. وإنما حذف لأنّ قوله ممن معك يدل عليه، والمعنى أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون في الدنيا ﴿ثم يمسهم منا عذاب أليم﴾ في الآخرة وهم الكفار. وعن محمد بن كعب القرظي : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وقيل : المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب. ولما شرح تعالى قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
تلك﴾ أي : قصة نوح التي شرحناها، ومحلّ تلك رفع على الابتداء وخبرها ﴿من أنباء الغيب﴾ أي : من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق. وقوله تعالى :﴿نوحيها إليك﴾ خبر ثان والضمير لها، أي : موحاة إليك. وقوله تعالى :﴿ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا﴾ أي : نزول القرآن خبر آخر، والمعنى أنّ هذه القصة مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك، ونظير هذا أن يقول إنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك. فإن قيل : قد كانت قصة طوفان نوح مشهورة عند أهل العلم. أجيب : بأنّ ذلك كان بحسب الإجمال، وأمّا التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة، أو بأنه ﷺ كان أمّياً لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يعلمها. وكذلك كانت أمته. ثم قال تعالى لنبيه محمد ﷺ ﴿فاصبر﴾ أي : أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار. ﴿إنّ العاقبة للمتقين﴾ الشرك والمعاصي وفي هذا تنبيه على أنّ عاقبة الصبر لنبينا ﷺ النصر والفرج، أي : السرور كما كان لنوح ولقومه. فإن قيل : هذه القصة ذكرت في يونس فما الحكمة والفائدة في إعادتها ؟
أجيب : بأنّ القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه، ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أنّ قومه كانوا يكذبونه بسبب أنّ العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد ﷺ وفي هذه السورة ذكرت لأجل أنّ الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكرها الله تعالى لبيان أنّ إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح عليه السلام، فلما صبر فاز وظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الحكمة والفائدة.
القصة الثانية : من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٦
٧٠