فائدة : اتفق القراء على إثبات الياء في كيدوني هنا وقفاً ووصلاً لثباتها في المصحف ﴿ثم لا تنظرون﴾ أي : تمهلون، وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام ؛ لأنه كان وحيداً في قومه وقال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت ثقة بالله تعالى كما قال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠
﴿إني توكلت على الله ربي وربكم﴾ أي : فوضت أمري إليه واعتمدت عليه ﴿ما من دابة﴾ تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان ؛ لأنّهم يدبون على الأرض. ﴿إلا هو آخذ بناصيتها﴾ أي : مالكها وقاهرها فلا يقع نفع ولا ضر إلا بإذنه والناصية كما قال الأزهري : عند العرب منبت الشعر في مقدّم الرأس، وسمي الشعر النابت هنا ناصية باسم منبته، والعرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، فخوطبوا في القرآن بما يعرفون من كلامهم ﴿إن ربي على صرط مستقيم﴾ أي : طريق الحق والعدل فلا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقوله تعالى :
﴿فإن تولّوا﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أي : تعرضوا ﴿فقد أبلغتكم﴾ جميع ﴿ما أرسلت به إليكم﴾ فإن قيل : الإبلاغ كان قبل التولي فكيف وقع جزاء للشرط ؟
أجيب : بأنّ معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير من جهتي وصرتم محجوجين ؛ لأنكم أنتم الذين أصررتم على التكذيب وقوله ﴿ويستخلف ربي قوماً غيركم﴾ استئناف بالوعيد لهم بأنّ الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوماً آخرين في ديارهم وأموالهم يوحدونه تعالى ويعبدونه ﴿ولا تضرّونه﴾ أي : الله بإشراككم ﴿شيئاً﴾ من الضرر إنما تضرون أنفسكم. وقيل : لا تنقصونه شيئاً إذا أهلككم ؛ لأنّ
٧٢
وجودكم وعدمكم عنده سواء ﴿إنّ ربي على كلِّ شيء﴾ صغير أو كبير، حقير أو جليل.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٢
حفيظ﴾
، أي : رقيب عالم بكل شيء وقادر على كل شيء فيحفظني أن تنالوني بسوء أو حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء.
﴿ولما﴾ لم يرجعوا ولم يرعووا ببينة ولا رغبة ولا رهبة ﴿جاء أمرنا﴾ أي : عذابنا، وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله تعالى بها سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وترفعهم وتضربهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية، وهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين. قرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الأولى، وقرأ ورش وقنبل بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما، ﴿نجينا هوداً والذين آمنوا معه﴾، أي : من هذا العذاب وكانوا أربعة آلاف ﴿برحمةٍ منا﴾ لأنّ العذاب إذا نزل قد يعمّ المؤمن والكافر، فلما أنجى الله تعالى المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه ﴿ونجيناهم من عذاب غليظ﴾ هو عذاب الآخرة. ووصفه بالغلظ ؛ لأنه أغلظ من عذاب الدنيا أو نجينا هوداً والذين آمنوا معه من أن يصل إليهم الكفار بسوء مع اجتهادهم في ذلك، ونجيناهم من عذاب غليظ هو الريح المذكورة. ولما ذكر الله تعالى قصة عاد خاطب أمة محمد ﷺ فقال :﴿وتلك عاد﴾ وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة، أمّا أوصافهم فثلاثة : الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿جحدوا بآيات ربهم﴾، أي : بالمعجزات التي أتى بها هود عليه السلام. الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿وعصوا رسله﴾، أي : هوداً وحده، وإنما أتى به بلفظ الجمع إمّا للتعظيم، أو لأنّ من عصى رسولاً فقد عصى جميع الرسل لقوله تعالى :﴿لا نفرّق بين أحد من رسله﴾ (البقرة، ٢٨٥). الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿واتبعوا أمر كل جبارٍ عنيد﴾، أي : أنّ السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم ما هذا إلا بشر مثلكم، فأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، وعصوا من دعاهم إلى الإيمان ولا يرديهم، والجبار : المرتفع المتمرد، والعنيد والعنود والمعاند هو المنازع المعارض. ولما ذكر تعالى أوصافهم ذكر أحوالهم بقوله تعالى :
﴿وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة﴾، أي : جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة. ومعنى اللعنة : الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، وقيل : اللعنة في الدنيا من الناس وفي الآخرة لعنة على رؤوس الأشهاد. ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم بقوله تعالى :﴿ألا إن عاداً كفروا ربهم﴾، أي : كفروا بربهم، فحذف الباء أو أنّ المراد بالكفر الجحد، أي : جحدوا ربهم. وقيل : هو من باب حذف المضاف، أي : كفروا نعمة ربهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٢


الصفحة التالية
Icon