يا إبراهيم أعرض عن هذا}، أي : الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك فلا فائدة فيه :﴿إنه قد جاء أمر ربك﴾، أي : قضاؤه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم ﴿وإنهم آتيهم عذاب غير مردود﴾، أي : لا سبيل إلى دفعه وردّه.
٧٩
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٧
﴿ولما جاءت رسلنا لوطاً﴾، أي : هؤلاء الملائكة الذين بشروا إبراهيم بالولد. قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وهو ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله تعالى ﴿سيء بهم﴾، أي : حزن بسببهم ﴿وضاق بهم ذرعاً﴾، أي : صدراً، يقال : ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه. وذلك أنّ لوطاً نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل : ساءه ذلك لأنه ؛ عرف بالآخرة أنهم ملائكة الله تعالى وأنهم جاؤوا لإهلاك قومه، فَرَقَّ قلبه على قومه ﴿وقال هذا يوم عصيب﴾، أي : شديد كأنه قد عصب به الشرّ والبلاء، أي : شد به مأخوذ من العصابة التي تشد بها الرأس، قال قتادة : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطاً نصف النهار وهو في أرض له يعمل فيها، وروي أنه كان يحتطب وقد قال الله تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه وانطلق بهم، فلما مضى ساعة قال لهم ما بلغكم من أمر هذه القرية ؟
قالوا : وما أمرهم قال : أشهد بالله أنها لشرّ قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرّات. وروي أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت : إنّ في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٠
وجاءه قومه﴾ لما علموا بهم ﴿يهرعون﴾، أي : يسرعون ﴿إليه﴾ قاله ابن عباس وقال الحسن : الإهراع المشي بين مشيين. ﴿ومن قبل﴾، أي : قبل مجيئهم إلى لوط وقيل من قبل مجيء الرسل إليهم ﴿كانوا يعملون السيئات﴾، أي : الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم. لوطٌ ﴿قال﴾ لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم ﴿يا قوم هؤلاء بناتي﴾ قال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد ببناته نساء قومه، وأضافهنّ إلى نفسه ؛ لأنّ كل نبي هو أبو أمّته كالوالد لهم، أي : فتزوجوا منهنّ. وقيل : أراد بنات نفسه عرضهنّ عليهم بشرط الإسلام. وقيل : كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة يباح تزويج المرأة المسلمة بالكافر كما زوّج رسول الله ﷺ ابنته من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوّجهما ابنتيه ﴿هن أطهر لكم﴾، أي : أنظف فعلاً. فإن قيل : أفعل التفضيل يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ؛ لأنه لا طهارة في إتيان الرجال ؟
أجيب : بأنّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى :﴿أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم﴾ (الصافات، ٦٢) ومعلوم أنّ شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله ﷺ "لما قالوا يوم أحد : اعل هبل قال : الله أعلى وأجل". ولا مماثلة بين الله تعالى والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة ﴿فاتقوا الله﴾ وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي ﴿ولا تخزون﴾، أي : تفضحوني ﴿في ضيفي﴾، أي : أضيافي ﴿أليس منكم رجل رشيد﴾ يهتدي إلى الحق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
﴿قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق﴾، أي : حاجة ﴿وإنك لتعلم ما نريد﴾، أي : من
٨٠
إتيان الذكور وما لنا فيه الشهوة فعند ذلك.
﴿قال﴾، أي : لوط عليه السلام ﴿لو أنّ لي بكم قوّة﴾، أي : طاقة ﴿أو آوي إلى ركن شديد﴾، أي : عشيرة تنصرني شبهت بركن الجبل في شدّته، وعنه ﷺ "رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد"، والركن الشديد نصر الله ومعونته فكأن النبيّ ﷺ استغرب من لوط عليه السلام قوله :﴿أو آوي إلى ركن شديد﴾ وعدّه نادرة إذ لا يمكن أشدّ من الركن الذي كان يأوي إليه، وجواب لو محذوف تقديره : لبطشت بكم أو لدفعتكم، روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٠
قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك﴾ بسوء فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وله جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا، فضرب بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم كما قال تعالى :﴿فطمسنا أعينهم﴾ (القمر، ٣٧) فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء، فإنّ في بيت لوط قوماً سحرة.