إلى فرعون} طاغية القبط ﴿وملئه﴾، أي : أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب ؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل ﴿فاتبعوا أمر فرعون﴾، أي : اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم ﴿وما أمر فرعون برشيد﴾، أي : بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل : رشيد ذو رشد، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهراً ؛ لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول : لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته، فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً من الرشد بالكلية.
﴿يقدم قومه يوم القيامة﴾ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى :﴿فأوردهم النار﴾. فإن قيل : لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي ؟
أجيب : بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها مورداً، ولهذا قال تعالى :﴿وبئس الورد المورود﴾ وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد
٨٧
والنار ضدّه. فإن قيل : لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال : وبئست الورد المورود ؟
أجيب : بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول : نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار.
﴿وأتبعوا في هذه﴾، أي : الدنيا ﴿لعنة﴾، أي : طرداً وبعداً عن الرحمة ﴿ويوم القيامة﴾، أي : وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص :﴿وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين﴾ (القصص، ٤٢). ﴿بئس الرفد﴾، أي : العون ﴿المرفود﴾ رفدهم، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال : هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة، وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به، وسميت اللعنة عوناً ؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفداً أي عوناً لهذا المعنى على التهكم كقول القائل : تحية بينهم ضرب وجيع. وسميت معاناً لأنها أردفت في الآخرة بلغة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم. ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى :﴿ذلك﴾، أي : المذكور وهو مبتدأ خبره ﴿من أنباء القرى﴾، أي : أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية، وقوله تعالى :﴿نقصه عليك﴾، أي : نخبرك به يا محمد خبراً بعد خبر، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ ﷺ ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلا بدّ وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي أخباره ﷺ بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتملذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ﴿منها﴾، أي : القرى ﴿قائم﴾، أي : باقٍ كالزرع القائم هلك أهله دونه ﴿و﴾ منها ﴿حصيد﴾، أي : عافى الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٦
وما ظلمناهم﴾، أي : بإهلاكهم بغير ذنب ﴿ولكن ظلموا أنفسهم﴾ بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس : يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى ﴿فما أغنت﴾، أي : دفعت ﴿عنهم آلهتهم﴾، أي : أصنامهم ﴿التي يدعون﴾، أي : يعبدون ﴿من دون الله﴾، أي : غيره ﴿من شيء﴾ أي شيئاً فمن مزيدة ﴿لما جاء أمر ربك﴾، أي : عقابه ﴿وما زادوهم﴾ بعبادتهم ﴿غير تتبيب﴾، أي : غير تخسير، وقيل : تدمير، ولما أخبر الله تعالى رسوله ﷺ في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة
٨٨
والسلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا.