﴿فأمّا الذين شقوا﴾ في علمه تعالى ﴿ففي النار لهم فيها زفير﴾ وهو صوت شديد ﴿وشهيق﴾ وهو صوت ضعيف. وقيل : الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم ﴿خالدين فيها﴾ وقوله تعالى :﴿ما دامت السموات والأرض﴾ فيه وجهان : أحدهما : سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى :﴿يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات﴾ (إبراهيم، ٤٨). وقوله تعالى :﴿وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء﴾ (الزمر، ٧٤)، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني : أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا ﴿إلاّ﴾، أي : غير ﴿ما شاء ربك﴾ من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبداً ﴿إن ربك فعال لما يريد﴾ من غير اعتراض.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٦
وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك﴾ كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى :﴿عطاء غير مجذوذ﴾، أي : مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء ؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء، . لما روي عن جابر أنه ﷺ قال :"يخرج قوم من النار بالشفاعة"، وفي رواية :"أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة". وفي رواية أنه ﷺ قال :"ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة" وفي رواية أنه ﷺ قال :"يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين". وعن عبد الله بن
٩٠
عمرو بن العاص :"ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد"، أي : من أهل الكبائر من أمّة محمد ﷺ بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى :﴿فمنهم شقيّ وسعيد﴾ تقسيماً صحيحاً ؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء ؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء : هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.
وقال أهل المعاني : هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً. وقيل : إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى :﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر﴾ (التوبة، ٧٢). وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي : أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة، ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول ﷺ أحوال الكفار من قومه فقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٨٦