نحن نقص عليك أحسن القصص}، أي : أحسن الاقتصاص ؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضاً، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة ؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والمعنى : أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم : يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها ﴿بما﴾، أي : بسبب ما ﴿أوحينا﴾، أي : بإيحائنا ﴿إليك﴾ يا محمد ﴿هذا القرآن﴾ الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله ﴿وإن كنت من قبله﴾، أي : إيحائنا إليك أو هذا القرآن ﴿لمن الغافلين﴾، أي : عن قصة يوسف وإخوته ؛ لأنه ﷺ إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وقوله تعالى :
﴿إذ قال يوسف لأبيه﴾ بدل من ﴿أحسن القصص﴾ أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل : عربي، وردّ بأنه لو كان عربياً لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال : الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال :"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" وقوله ﴿يا أبت﴾ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في
١٠٠
الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون ﴿إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمسم والقمر﴾ قال أهل التفسير : رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل : سبع عشرة، وقيل : سبع سنين ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب ؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعاً "للكشاف" عن جابر من أنّ يهودياً قال للنبيّ ﷺ أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي : ، أي : والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي : إنه موضوع، وقوله :﴿رأيتهم لي ساجدين﴾ استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار ؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٩٩
وقال بعضهم : إنه لما قال : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر قيل له : كيف رأيت ؟
قال : رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون : يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا ؟
قال الرازي : فذكر قولاً مجملاً غير مبين. فإن قيل : قوله : رأيتهم وقوله : ساجدين لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات ؟
أجيب : بأنها لما وصفت بالسجود صارت كأنها تعقل وأخبر عنها كما أخبر عمن يعقل كما قال تعالى في صفة الأصنام :﴿وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾ (الأعراف، ١٩٨) وكما في قوله تعالى :﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم﴾ (النمل، ١٨). فإن قيل : لم أفرد الشمس والقمر بالذكر مع أنهما من جملة الكواكب ؟
أجيب : بأنه أفردهما لفضلهما وشرفهما على سائر الكواكب كقوله تعالى :﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾ (البقرة، ٩٨) وهل المراد بالسجود نفس السجود حقيقة أو التواضع ؟
كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على الحقيقة قال أهل التفسير : إن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف عليه السلام فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر وذلك ليعقوب فلما رأى يوسف هذه الرؤيا، وكان تأويلها أن أبويه وإخوته يخضعون له، وخاف عليه حسدهم وبغيهم.
﴿قال﴾ له أبوه ﴿يا بنيّ﴾ بصيغة التصغير للشفقة أو لصغر سنه على ما تقدّم، وقرأ حفص في الوصل بفتح الياء، والباقون بالكسر والتشديد للجميع ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾، أي : لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها ﴿فيكيدوا لك كيدا﴾، أي : فيحتالوا في هلاكك. فإن قيل : لم لم يقل فيكيدوك كما قال فكيدوني ؟
أجيب : بأنّ هذه اللام تأكيد للصلة كقوله :﴿للرؤيا تعبرون﴾ (يوسف، ٤٣) وكقوله : نصحتك ونصحت لك، وشكوتك وشكوت لك.


الصفحة التالية
Icon