الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع : أنّ قولهم :﴿ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا﴾ محض حسد، والحسد من أمّهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمورٍ مذمومة منها قولهم :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٠٣
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً﴾
، أي : بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه، ومنها القاؤه في ذل العبودية، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة ؟
أجيب : بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل، والباقون بالكسر، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع، وقولهم :﴿يخل لكم وجه أبيكم﴾ جواب الأمر، أي : يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد، وقولهم :﴿وتكونوا﴾ مجزوم بالعطف على يخل لكم أو منصوب بإضمار أن ﴿من بعده﴾، أي : قتل يوسف أو طرحه ﴿قوماً صالحين﴾ بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
﴿قال قائل منهم﴾ هو يهوذا وكان أحسنهم رأياً فيه، وهو الذي قال :﴿فلن أبرح الأرض﴾ (يوسف، ٨٠) وقيل : روبيل وكان أكبرهم سناً ﴿لا تقتلوا يوسف وألقوه﴾، أي : اطرحوه ﴿في غيابت الجب﴾، أي : في أسفله وظلمته، والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر قال القائل :
*فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي ** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جباً لأنها
١٠٤
قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، واختلف في موضع ذلك الجب، فقال قتادة : هو ببيت المقدس وقال وهب : هو بأرض الأردن. وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد ﴿يلتقطه﴾، أي : يأخذه ﴿بعض السيارة﴾ جمع سيار، أي : المبالغ في السير، وذلك الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه ﴿إن كنتم فاعلين﴾، أي : ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل.
﴿قالوا﴾ إعمالاً للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب ؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه ﴿يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و﴾ الحال ﴿إنا له لناصحون﴾، أي : قائمون بمصلحته وحفظه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٠٣
تنبيه : اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الإشمام.
﴿أرسله معنا غداً﴾، أي : إلى الصحراء ﴿نرتع﴾، أي : نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير ﴿ونلعب﴾ روي أنه قيل لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء ؟
فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه ﷺ قال لجابر :"فهلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك" وأيضاً كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم ﴿إنا ذهبنا نستبق﴾ وإنما سموه لعباباً لأنه في صورته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما، والباقون بالياء، وسكن العين أبو عمرز وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وكسرها الباقون في الوصل، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفاً ووصلاً ﴿وإنا له لحافظون﴾، أي : بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالماً. قال أبو حيان : وانتصب ﴿غداً﴾ على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غداً غدو فحذفت الواو انتهى. ثم إنّ يعقوب عليه السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل : ما حكاه الله تعالى عنه بقوله :
﴿قال إني ليحزنني أن تذهبوا به﴾، أي : ذهابكم به، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب ؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي،
١٠٥


الصفحة التالية
Icon