وأوحينا إليه} في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام في صغرهما، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها ﴿لتنبئنهم﴾، أي : لتخبرنهم بعد هذا اليوم ﴿بأمرهم﴾، أي : بصنعهم ﴿هذا وهم لا يشعرون﴾، أي : أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى :﴿فعرفهم وهم له منكرون﴾ (يوسف، ٥٨) والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة، ويصير مستولياً عليهم، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره. روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم : أكله الذئب، وقيل : لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله، وقيل : إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى ﴿وأوحينا إلى أمّ موسى﴾ (القصص، ٧) وقوله تعالى :﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ (النحل، ٦٨) ﴿و﴾ لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل الذي فعلوه إلا الاعتذار ﴿جاؤوا أباهم﴾ دون يوسف ﴿عشاءً﴾ في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضدّ ما جاؤوا به من الاعتذار وقد قيل : لا تطلب الحاجة في الليل فإنّ الحياء في العينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار ﴿يبكون﴾ والبكاء جريان الدمع من العين، والآية تدل على أنه لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع، روي أنّ امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق فعند ذلك فزع يعقوب عليه السلام فقال : هل أصابكم في غنمكم شيء ؟
قالوا : لا. قال : فما فعل يوسف ؟
﴿قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق﴾ قال الزجاج : يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"لا سبق إلا في خف أو نصل أو
١٠٧
حافر" يعني بالنضل الرمي، وقيل : العدو لنتبين أينا أسرع عدواً ﴿وتركنا يوسف﴾ أخانا ﴿عند متاعنا﴾، أي : ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحو ذلك ﴿فأكله﴾، أي : فتسبب عن انفراده أن أكله ﴿الذئب وما﴾، أي : والحال أنك ما ﴿أنت بمؤمن﴾، أي : بمصدّق لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة ﴿لنا ولو كنا صادقين﴾ في هذه القصة لمحبة يوسف عندك فكيف وأنت تسيء الظنّ بنا ؟
وقيل : لا تصدّقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٠٦
و﴾
لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة ﴿جاؤوا على قميصه﴾، أي : يوسف عليه السلام ﴿بدم كذب﴾ قال الفراء : ، أي : مكذوب فيه إلا أنه وصفه بالمصدر على تقدير ذي كذب أو مكذوب أطلق على المصدر مبالغة ؛ لأنه غير مطابق للواقع ؛ لأنهم ادّعوا أنه دم يوسف عليه السلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوا القميص بذلك الدم. قال القاضي : ولعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم إذ يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بدّ في المعصية من أن يقترن بها الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الاتهام أقوى فلما شاهد يعقوب عليه السلام القميص صحيحاً علم كذبهم، روي أنّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص منهم، وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قيمصه.
تنبيه : على قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحماله، ولا يصح أن يكون حالاً متقدّمة ؛ لأنّ حال المجرور لا يتقدّم عليه. قال الشعبي : قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك أنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال :﴿إن كان قميصه قد من قبل﴾ (يوسف، ٢٦) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب وألقي على وجهه ارتدّ بصيراً.


الصفحة التالية
Icon