﴿ولما بلغ أشدّه﴾، أي : منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب : بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال : بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي : بلغ ثلاثين سنة، وقال الضحاك : عشرين سنة. وقال الكلبي : الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين، وقيل : أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء : إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. ﴿آتيناه حكما﴾، أي : حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكماً بين الناس ﴿وعلماً﴾، أي : علم تأويل الأحاديث، وقيل : المراد بالحكم النبوّة والرسالة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١١
وتقدّم أنّ قوله تعالى :﴿وأوحينا﴾ أنه وحي حقيقة. قال الرازي : فلا يبعد أن يقال : إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ﴿وكذلك﴾، أي : ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به ﴿نجزي المحسنين﴾ قال ابن عباس : يعني المؤمنين، وعنه أيضاً يعني المهتدين، وقال الضحاك :
١١٢
يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه السلام. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى :
﴿وراودته التي هو في بيتها﴾، أي : امرأة العزيز راودت يوسف ﴿عن نفسه﴾ لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه، ويقال : إنّ زوجها كان عاجزاً، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها ﴿وغلقت الأبواب﴾، أي : أطبقتها وكانت سبعة، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد ﴿وقالت﴾ له ﴿هيت﴾ أي تهيأت وتصنعت ﴿لك﴾ خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي : هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه، ومعناه : هلم في قول جميع أهل اللغة، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء، والباقون بالفتح قرأ وهشام بعد الهاء بهمزة ساكنة، والباقون بياء ساكنة، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها، والباقون بالفتح ﴿قال﴾ لها يوسف عليه السلام ﴿معاذ الله﴾، أي : أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه ﴿إنه﴾، أي : الذي اشتراني ﴿ربي﴾، أي : سيدي ﴿أحسن مثواي﴾، أي : أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل : إنه أي : الله ربي أحسن مثواي، أي : آواني ومن بلاء الجب أنجاني ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾، أي : إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون.
﴿ولقد همت به وهم بها﴾، أي : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهمَّ بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهمّ قسمان : همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز، فالعبد مأخوذ به، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال :"يقول الله عز وجل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١١
قال في "الكشاف" : ويجوز أن يريد بقوله :﴿وهم بها﴾ شارف أن يهم بها كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه ﴿لولا أن رأى﴾، أي : بعين قلبه ﴿برهان ربه﴾، أي : الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي : لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلاً،
١١٣


الصفحة التالية
Icon