ما تعبدون} وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة ؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله :﴿من دونه﴾، أي : الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك ﴿إلا أسماء﴾ وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله ﴿سميتموها﴾، أي : ذوات أوجدتم لها أسماء ﴿أنتم﴾ سميتموها آلهة وأرباباً، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها ﴿وآباؤكم﴾ من قبلكم سموها كذلك ﴿ما أنزل الله بها﴾، أي : بعبادتها ﴿من سلطان﴾، أي : حجة وبرهان ﴿إن الحكم﴾، أي : ما الحكم ﴿إلا لله﴾، أي : المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة ﴿أمر﴾ وهو النافذ الأمر المطاع الحكم ﴿أن لا تعبدوا إلا إياه﴾ ؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديراً بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهاً على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال :﴿ذلك﴾، أي : الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه ﴿الدين القيم﴾، أي : المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿ولكنَّ أكثر الناس﴾ وهم الكفار ﴿لا يعلمون﴾ ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون. ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال :
﴿يا صاحبي السجن﴾، أي : الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال :﴿أمّا أحدكما﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿فيسقي ربه﴾، أي : سيده ﴿خمراً﴾ على عادته، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه ﴿وأمّا الآخر﴾ وهو صاحب طعام الملك ﴿فيصلب﴾ والسلال الثلاثة ثلاثة أيام، ويدعو به الملك فيصلبه ﴿فتأكل الطير من رأسه﴾ هذا تأويل رؤياه، قال ابن مسعود : فلما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا : ما رأينا شيئاً إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف عليه السلام ﴿قضي﴾، أي : تم ﴿الأمر الذي فيه تستفتيان﴾، أي : تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط.
١٢٣
﴿وقال﴾ يوسف عليه السلام ﴿للذي ظنّ﴾، أي : علم وتحقق، فالظنّ بمعنى العلم ؛ لأنه قاله عن وحي لقوله ﴿قضي الأمر﴾ ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي، فهو حينئذ على بابه ﴿أنه ناجٍ منهما﴾ وهو الساقي ﴿اذكرني عند ربك﴾، أي : سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله :﴿أأرباب متفرقون﴾ فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليه السلام، واختلف في ضمير ﴿فأنساه الشيطان ذكر ربه﴾ على قولين :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٠
أحدهما : أنه يعود إلى الساقي، وهو قول جماعة من المفسرين، أي : فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا : لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.
والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أنه يرجع إلى يوسف عليه السلام. وقال الرازي : إنه الحق، أي : أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت له عليه السلام، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فهذا وإن كان جائزاً لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، فلهذا صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليه السلام كان مبرأً مما نسبه الجهال والحشوية إليه.


الصفحة التالية
Icon