قال} للنسوة بعد أن جمعهنّ وامرأة العزيز معهنّ ﴿ما خطبكنّ﴾، أي : ما شأنكنّ العظيم وقوله :﴿إذ راودتنّ﴾، أي : خادعتنّ ﴿يوسف عن نفسه﴾ دليل على أنّ براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، وإنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها، وقيل : إنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهنّ فكأنه قيل فما قلن ؟
قيل :﴿قلن حاش لله﴾، أي : عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر ﴿ما علمنا عليه﴾، أي : يوسف عليه السلام وأغرقن في النفي فقلن ﴿من سوء﴾، أي : من خيانة في شيء من الأشياء، ولما أنّ يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال :﴿ما بال النسوة اللاتي قطعنّ أيديهنّ﴾ (يوسف، ٥٠) فذكرهنّ ولم يذكر تلك المرأة البتة وعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عنها أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء فلذلك ﴿قالت امرأت العزيز﴾ مصرحة بحقيقة الحال ﴿الآن حصحص الحق﴾، أي : ظهر وتبين ﴿أنا راودته﴾، أي : خادعته ﴿عن نفسه﴾ وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدّم ﴿وإنه لمن الصادقين﴾، أي : الغريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة
١٢٨
إليّ، وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين.
قال الرازي : رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصداقها في دعواها. فقالت المرأة : لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك. ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال :
﴿ذلك﴾، أي : الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق ﴿ليعلم﴾ العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علماً مؤكداً ﴿أني لم أخنه﴾، أي : في أهله ولا في غيرها ﴿بالغيب﴾، أي : والحال أنّ كلاً منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام، قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى :﴿إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ (النمل، ٣٤) هذا كلام بلقيس، ثم قال الله تعالى :﴿وكذلك يفعلون﴾ (النمل، ٣٤) وقوله تعالى :﴿ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه﴾ (آل عمران، ٩) كلام الداعي ثم قال الله تعالى :﴿إنّ الله لا يخلف الميعاد﴾ ثم ختم الكلام بقوله :﴿وأنّ الله لا يهدي﴾، أي : يسدّد وينجح بوجه من الوجوه ﴿كيد الخائنين﴾، أي : ولو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٢٧
وقيل : إنه كلام امرأة العزيز، والمعنى : أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته، أي : لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت :﴿وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت، وإنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه. واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليه السلام من وجوه كثيرة ؛
الأوّل : قولها :﴿أنا رادوته عن نفسه﴾.
والثاني : قولها :﴿وإنه لمن الصادقين﴾ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله :﴿هي راودتني عن نفسي﴾.
والثالث : قول يوسف عليه السلام :﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت. قال الرازي : وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، أي : وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن.
ورابعها : أنّ إقدامه على قوله ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء ؟
فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية، واختلفوا في تفسير قوله :
﴿وما أبرئ نفسي﴾ لأنّ ذلك يختلف باختلاف ما قبله ؛ لأنّ قوله :
١٢٩


الصفحة التالية
Icon