وروى ابن عباس عن رسول الله ﷺ في هذه الآية قال :"رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك". قال الرازي : وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه. ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى، ثم قال :﴿إني حفيظ عليم﴾، أي : ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل : كاتب وحاسب. فإن قيل : لم طلب يوسف عليه السلام الإمارة والنبيّ ﷺ قال لعبد الرحمن بن سمرة :"لا تسأل الإمارة". ولم طلب الإمارة من سلطان كافر، ولم لم يصبر مدّة، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى :﴿فلا تزكوا أنفسكم﴾ (النجم، ٣٢) ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى :﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف : ٢٣، ٢٤) فهذه سبعة أسئلة ؟
١٣١
أجيب عنها : بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان وإنما كان ذلك واجباً عليه لوجوه :
الأوّل : أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان.
والثاني : أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق.
والثالث : أن السعي أيضاً في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول، فكان مكلفاً عليه السلام برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما مدح نفسه ؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، وأيضاً مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى ﴿فلا تزكوا أنفسكم﴾ (النجم، ٣٢) المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿هو أعلم بمن اتقى﴾ (النجم، ٣٢) أمّا إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه، وإنما ترك الاستثناء ؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي، فلهذا المعنى ترك الاستثناء، ولما سأل يوسف عليه السلام ما تقدم قال معلماً بأنه قد أجيب بتنجيز الله تعالى له :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٣٠
وكذلك﴾، أي : كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن ﴿مكنا ليوسف في الأرض﴾، أي : أرض مصر ﴿يتبوّأ﴾، أي : ينزل ﴿منها حيث يشاء﴾ بعد الضيق والحبس قال ابن عباس وغيره : ولما انقضت السنة من يوم سأل الأمارة دعاه الملك فتوجه وجعل خاتم الملك في إصبعه وقلده سيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشاً، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشدّ به ملكك، وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وأمره أن يخرج فخرج لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق : قال ابن زيد : وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما كنت تريدين ؟
قالت : أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عليه السلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدواب في السنة الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة، ثم بأولادهم في السنة السادسة، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبداً له، فقال الناس : ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق
١٣٢