﴿ولقد آتينا﴾ أي : بما لنا من الجلال والكمال ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين، قال أبو حيان : وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٨
من بعدما أهلكنا القرون الأولى﴾ أي : من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى ﴿بصائر للناس﴾ حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي : أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به ﴿وهدى﴾ أي : للعامل بها إلى كل خير
١٥١
﴿ورحمة﴾ أي : نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما، ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى :﴿لعلهم يتذكرون﴾ أي : ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه ﷺ بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿وما كنت﴾ أي : يا أفضل الخلق ﴿بجانب الغربي﴾ قال قتادة : بجانب الجبل الغربي، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي أي : الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار وهو ما يلي البحر من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿قضينا﴾ أي : أوحينا ﴿إلى موسى الأمر﴾ أي : أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملاً فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله ﴿وما كنت﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿من الشاهدين﴾ لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى :
﴿ولكنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿أنشأنا﴾ بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم ﴿قروناً﴾ أي : أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام ﴿فتطاول﴾ أي : بمروره وعلوه ﴿عليهم العمر﴾ أي : ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود
١٥٢
واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده، فإن قيل : ما الفائدة في إعادة قوله تعالى :﴿وما كنت من الشاهدين﴾ بعد قوله :﴿وما كنت بجانب الغربي﴾ لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً ؟
أجيب : بأنّ ابن عباس قال : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٢
وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم، ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى :﴿وما كنت ثاوياً﴾ أي : مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ﴿في أهل مدين﴾ أي : قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم ﴿تتلوا﴾ أي : تقرأ ﴿عليهم﴾ تعلماً منهم ﴿آياتنا﴾ العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك ﴿ولكنا كنا مرسلين﴾ إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.
﴿وما كنت بجانب الطور﴾ أي : بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿نادينا﴾ أي : أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحداً حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا، وهو معنى قوله تعالى ﴿ولكن﴾ أي : أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به ﴿رحمة من ربك﴾ لك خصوصاً وللخلق عموماً.