وإذا يتلى} أي : تتجدّد تلاوة القرآن ﴿عليهم قالوا﴾ أي : مبادرين لذلك ﴿آمنا به﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم ﴿إنه الحق﴾ أي : الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه ﴿من ربنا﴾ أي : المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم ﴿إنا كنا من قبله﴾ أي : القرآن ﴿مسلمين﴾ أي : منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد ﷺ أنه نبيّ حق.
﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿يؤتون أجرهم مرّتين﴾ أي : لإيمانهم به غيباً وشهادة أي : بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني ﴿بما صبروا﴾ أي : بسبب صبرهم على دينهم، وقال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله ﷺ قال :"ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد ﷺ وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده" ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفاً على يؤمنون مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين ﴿ويدرؤن﴾ أي : يدفعون ﴿بالحسنة﴾ من الأقوال والأفعال ﴿السيئة﴾ أي : فيمحونها بها، وقال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل : يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي : بالصفح والعفو.
١٥٦
﴿ومما رزقناهم﴾ أي : بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلاً كان أو كثيراً ﴿ينفقون﴾ أي : يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه، ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى :
﴿وإذاسمعوا اللغو﴾ أي : ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه ﴿أعرضوا عنه﴾ تكرّماً عن الخنا، وقيل اللغو : القبيح من القول ؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ﴿وقالوا﴾ وعظاً وتسميعاً لقائله ﴿لنا﴾ خاصة ﴿أعمالنا﴾ لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون ﴿ولكم﴾ أي : خاصة ﴿أعمالكم﴾ لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم ﴿سلام عليكم﴾ متاركة لهم وتوديعاً ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، لا سلام تحية وإكرام، ونظير ذلك ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ (الفرقان، ٦٣) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى : حاكياً عنهم ﴿لا نبتغي﴾ أي : لا نكلف أنفسنا أن نطلب ﴿الجاهلين﴾ أي : لا نريد شيئاً من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجباً، ونزل في حرصه ﷺ على إيمان عمه أبي طالب ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ أي : نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال : أي : عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل ﷺ يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله ﷺ والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ (التوبة : ١١٣)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٦
وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله ﷺ ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ الآية، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ "أمره بالتوحيد فقال له لولا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية" وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ ﷺ يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية ﴿أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ وقال تعالى في آية أخرى :﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ (الشورى : ٥٢)


الصفحة التالية
Icon