فعميت} أي : خفيت وأظلمت ﴿عليهم الأنباء﴾ أي : الأخبار المنجية ﴿يومئذ﴾ التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، تنبيه : الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوِّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى :﴿فهم لا يتساءلون﴾ أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره.
﴿فأما من تاب﴾ عنه وقوله تعالى :﴿وآمن﴾ تصريح بما علم التزاماً فإن الكفر والإيمان
١٦٣
ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى :﴿وعمل صالحاً﴾ لأجل أن يكون مصدقاً لدعواه باللسان ﴿فعسى﴾ إذا فعل ذلك ﴿أن يكون من المفلحين﴾ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح، ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب.
﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار﴾ لا موجب عليه ولا مانع له ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ أي : أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه، تنبيه : الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأساً، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه، قال القائل :
*وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدّم
*أجد الملامة في هواك لذيذة ** حباً لذكرك فليلمني اللوّم
*وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ** ما من يهون عليك ممن يكرم*
وقيل ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي : الخير والصلاح ﴿سبحان الله﴾ تنزيهاً له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره وتعالى : أي : علا علواً لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه ﴿عما يشركون﴾ أي : عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به، ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦١
وربك﴾
أي : المحسن إليك المتولي أمر تربيتك ﴿يعلم ما تكنّ﴾ أي : تخفي وتستر ﴿صدورهم﴾ من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه السلام، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول ﷺ ﴿وما يعلنون﴾ أي : يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى :﴿ما تكنّ صدورهم﴾ عن قوله :﴿وما يعلنون﴾ أجيب : بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك، ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلهاً واحداً فرداً صمداً وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى :
﴿وهو الله﴾ أي : المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى :﴿لا إله إلا هو﴾ وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿له﴾ أي : وحده ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿في الأولى والآخرة﴾
١٦٤
لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا، فإن قيل الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة ؟
أجيب : بأنهم يحمدونه بقولهم ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ ﴿﴾(فاطر : ٣٤)
﴿الحمد لله الذي صدقنا وعده ﴾ (الزمر : ٧٤)
﴿وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ (يونس : ١٠)
والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي الحديث يلهمون التسبيح والتقديس ﴿وله الحكم﴾ أي : القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس : حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء ﴿وإليه﴾ لا إلى غيره ﴿ترجعون﴾ أي : بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين، ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦١


الصفحة التالية
Icon