*ولست بمفراح إذا الدهر سرني
وقال آخر :
*أشدّ الغم عندي في سرور*
تيقن عنه صاحبه انتقالاً فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.
﴿وابتغ﴾ أي : اطلب طلباً تحمد نفسك فيه ﴿فيما آتاك الله﴾ أي : الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة ﴿الدار الآخرة﴾ بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة ﴿ولا تنس﴾ أي : ولا تترك ﴿نصيبك من الدنيا﴾ قال مجاهد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، وقال السدّيّ : بالصدقة وصلة الرحم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٥
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، روي أنه ﷺ قال فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله ﷺ قال لرجل وهو يعظه "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك"، وقال الحسن : أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه، وقال منصور بن
١٦٨
زادان قوتك وقوت أهلك ﴿وأحسن﴾ أي : أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر ﴿كما أحسن الله﴾ الجامع لصفات الكمال ﴿إليك﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك ﴿ولا تبغ﴾ أي : ولا ترد إرادة ما، ﴿الفساد في الأرض﴾ بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل ﴿إن الله﴾ أي : العالم بكل شيء القدير على كل شيء ﴿لا يحب المفسدين﴾ أي : لا يعاملهم معاملة من يحبه، وقيل أن القائل له هذا موسى عليه السلام، وقيل مؤمنو قومه، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٥
﴿قال﴾ أي : قارون في الجواب ﴿إنما أوتيته﴾ أي : هذا المال ﴿على علم﴾ حاصل ﴿عندي﴾ فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي : فرآني له أهلاً ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقيل هو علم الكيمياء، وقال سعيد ابن المسيب كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب ابن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب، ثم أجاب الله تعالى : عن كلامه بقوله تعالى :﴿أو لم يعلم أنّ الله﴾ أي : بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال ﴿قد أهلك﴾ وقوله تعالى :﴿من قبله من القرون﴾ فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى :﴿ومن هو أشدّ منه قوة﴾ أي : في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم ﴿وأكثر جمعاً﴾ في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل :﴿ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون﴾ فقال قتادة
١٦٩
يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن : لا يسئلون سؤال استعلام وإنما يسئلون سؤال توبيخ وتقريع، وقيل المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال، فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى :﴿فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون﴾ (الحجر : ٩٢ ـ ٩٣)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٩
أجيب : بحمل ذلك على وقتين، وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب، قال ابن عادل : وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى :﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون﴾ (النحل، ٨٤) هذا يوم لا ينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون (المرسلات : ٣٥، ٣٦).
﴿فخرج﴾ أي : فتسبب عن تجبره واغتراره بماله أن خرج ﴿على قومه﴾ أي : الذين نصحوه في الاقتصاد في شأنه والإكثار في الجود على إخوانه وقوله تعالى :﴿في زينته﴾ فيه دليل على أنه خرج بأظهر زينته وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر.


الصفحة التالية
Icon